لماذا وإلى أين ؟

تكنوقراط متنكرون ؟!

عز الدين بونيت

من الأفكار الصامدة في تعليقاتنا السياسية عقب ظهور كل تشكيلة حكومية جديدة، فكرة الوزير التكنوقراطي في مقابل الوزير السياسي، ووزير السيادة في مقابل الوزير… بلا سيادة(؟!). نطلق صفة السياسي باطمئنان على الوزير لمجرد انه ينتمي الى تنظيم حزبي، وننزعها عنه اذا لم يكن له مثل هذا الانتماء، وليذهب أرسطو وكل الفلاسفة الذين يؤكدون ان الإنسان حيوان سياسي بطبعه، إلى الجحيم. وهناك من الحزبيين المخلصين من يشترط ألا تطلق صفة السياسي الا على الوزير الذي يكون قد أفنى عدة أحذية في سبيل الحزب، وأحتك بالشعب والتحم معه وعرف دروبه وشعابه.

وفي الآونة الأخيرة ظهرت فكرة تكميلية بدت لمن يستعملها بليغة بديعة، وهي فكرة ان الوزير الفلاني تمت صباغته بلون الحزب الفلاني، قبل ان يتم إدخاله الى الفريق الحكومي. وما يرجى فهمه من هذه الفكرة هو ان أولئك الوزراء المصبوغين، ليسوا ابدا جديرين بصفة السياسيين، مهما حاولوا التستر وراء الأصباغ، وأنهم تكنوقراط لا يعرفون السياسة ولا يفهمون في احوال الشعب ولا في المقالب والتقديرات السياسية القصيرة والبعيدة المدى. ولذلك فوجودهم في الحكومة غير ملائم، ونجاحاتهم التدبيرية وكفاءاتهم المبرهن عليها في مهامهم السابقة لا قيمة لها ولا تشفع لهم في باب السياسة.

لا أعرف بالضبط ما هي السياسة التي كان ينبغي ان يتقنها التكنوقراط كي نرضى عنهم ونطمئن لقدراتهم. ولا أتذكر ما هي بالضبط منجزات الوزراء السياسيين التي لا تعدلها في النجاعة منجزات اي وزير تكنوقراطي، كي أتبين مرمى هذا الاعتراض الراسخ على التكنوقراطي لحساب السياسي. هل السياسي مثلا هو الذي يتقن فن التسويات؟ هل هو ذلك الذي يضرب اخماسا في أسداس قبل اتخاذ اي قرار، ويراعي غضب الناخبين وترضية الحلفاء ومراكز القوة داخل التحالف الحاكم؟ هل هو ذلك الذي يتبنى التعريف القائل إن السياسة هي فن الممكن، مع ما يعنيه ذلك من تعطيل ما ينبغي انجازه لأن التوازنات لا تسمح بذلك؟

ثم لنتكلم بصراحة. نحن نعرف “خروب بلادنا” الحزبي والسياسي. ونعرف البئر وغطاءها على حد تعبير المثل الشعبي المصري، في موضوع السياسيين الحزببين، ونعرف على الخصوص ضحالتهم السياسية نفسها، وليس التقنية فقط. نعرف خبرتهم المحدودة وعجزهم الكبير عن التواصل مع الجماهير، وعدم قدرتهم على الخطابة ولا على بلورة رؤى سياسية متكاملة. نعرف كل ذلك ونعرف قيمتهم المضافة المنتظرة. من منا سبق له ان قرأ ولو جملة واحدة منشورة لسياسي مكرس يشرح فيها مشروعه السياسي؟ لا أتحدث عن كتاب، ولا عن مقالة، أتحدث عن جملة واحدة.

ثم إننا نعرف، كيف ان الحياة الحزبية تلفظ كفاءات الأحزاب نفسها، وتسهم في عزوف كفاءات أخرى عن الانشغال بالسياسة في صورتها الضحلة التي هي عليها الآن. نعرف كل ذلك، ونعرف ان السياسة السياسوية التي طبعت حياتنا السياسية في العقدين الأخيرين، اصبحت هي نفسها عائقا فعليا في وجه كل تحول مأمول، نحو ترسيخ الديمقراطية، ونحو التنمية.

لكل هذا، لا ارى ما يجعلني اعترض على تلقيح الحياة السياسية بكفاءات لم تستطع الأحزاب تعبئتها من تلقاء نفسها. ولا ارى بأي منطق يحكم على مثل هذا التلقيح بأنه تزييف للمشهد السياسي، وطعن في جدوى الانتخابات. هل هناك قاعدة تقول إن اقتحام الحياة السياسية لا بد أن يبدأ من باب الفرع الحزبي؟ ما العيب في ان تربح الأحزاب المحظوظة غير المنغلقة على نفسها، كفاءات ما كان لها أن تحلم بها لو بقيت في منطق الزبونية الحزبية.

لا نملك من الوقت ما نضيعه في وهم جدارة السياسي المتحزب الذي يكون قد قضى كل حياته وهو لم يخرج من حيه ومدينته، ولم يقرأ كتابا واحدا في مشاكل العالم، ولا يميز بين المشكلة وأعراضها.. هذه حقائق ينبغي ان ندمجها في تحليلنا قبل الاعتراض على الكفاءات، التي قضى بعضها في الواقع وقتا طويلا في السياسة على أعلى المستويات.
وأخيرا، من اين لنا بكل هذا اليقين الذي يجعلنا نحكم بالفشل على تجربة حكومية لم تبدأ بعد، ولم نسمع حتى ما الذي تنوي هذه الحكومة القيام به لنحلله ونناقشه، ونرى مدى تماسكه وجديته، أو تهافته وضحالته؟

أستاذ التعليم العالي بكلية الاداب والعلوم الانسانية بجامعة ابن زهر

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

4 تعليقات
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
عابر الطريق
المعلق(ة)
13 أكتوبر 2021 10:05

يا سعادة الاستاذ الفرق بين الأمرين هو الدمقرطة والكفائة والعقيدة الحزبية وليس هي مسألة الشخص. الدمقرطة هي مجموعة الخصائص للتصنيف في تقدم الدولة، الكفائة تكنوقراطية كانت أم سياسيوتكنوقراطية هي مجموعة الخواص التي يتطلبها الإنخراط في العمل السياسي لخدمة مصلحة البلد، والعقيدة الحزبية هي ناتجة عن الممارسة السياسية المرتكزة على الرؤية في النهوض المجتمعية بالصبغة النابعة من خدمة المجتمع والغير القابلة للترحال السياسي الإنتهازي عند الإنتخابات. وغير ذلك، كما هو الحال في البلاد العربية والإسلامية ، ليس إلا صباغة لواقع مرير بعيد كل البعد عن ما يراد الإنتماء اليه.

علي
المعلق(ة)
13 أكتوبر 2021 08:43

متفق معك حتى لحظة استعمالك عبارة التلقيح لأنه إذا كنت تحس بأنك في حاجة إلى تلقيح فلا تطبق ذلك على الجميع.

مكاوي
المعلق(ة)
13 أكتوبر 2021 07:38

هل فعلا كاتب المقال استاذ تعليم عالي؟ فعلا اصابني الشك من هول ما شاهدته في تدوينته الطويلة هاته من لغة ضعيفة وبناء حججي لاأكاديمي وغياب أي منهج علمي أو لغة نظر علمي كما أنني ايقينت أن عددا من رجال التعليم العالي بحاجة إلى إعادة تكوين على عدد من المواد.. على الأستاذ أن يقرأ تاريخ الحركة التقنوقراطية ونشأة المفهوم تاريخيا والصراعات التي خلفتها خصوصا في امريكا في ثلاثينيانات القرن الماضي.. ثم عليه أن يدرك ان النقنوقراط الحقيقي هو رجل سياسي وربما مؤدلج بشكل عميق لكن غير محزب مسيس لانه يعرف كيف يوفق بين الاولويات السياسية في تدبير القطاع مثلا وبين الخبرة والمعرفة لدينا وزير واحد من هذه الطينة هو أحمد التوفيق.. في بلادنا هؤلاء ليسوا تقنوقراط بما فيهم لفتيت وبوريطة وغيرهما لأنهم لايملكون ثقافة سياسية عميقة يبدو ذلك في طريقة تواصلهم وهؤلاء مجرد موظفون سامون وزراء تدرج مهني تم تكليفهم بتدبير قطاعات أما عن مفهوم قطاع سيادي فأقول أن كل القطاعات سيادية يا استاذ فلا يمكن لأي وزير أن يقرر في قطاعه بدون استشارة الفوق فالطاقة والتعليم والصحة والفلاحة والصيد البحري ووو كلها قطاعات سيادية يتحدث عنها الملك دائما ويوجهها ولايسمح بالعبث فيها.. ولا تنسى أن الملك مؤخرا تحدث عن السيادة الطاقية والصحية والغذائية وغيرها.. العقل البشري عندما أحدث مفهوم الوزير السياسي فإنه كان يعرف جيدا الحاجة إليه في تحديد الاولويات السياسة وفي القدرة على التواصل مع المجتمع ولو كان غير ذلك لسمي الوزير خبيرا او مستشارا أو عالما او غيرها الوزير هو الوزير ينتج السياسة وليس الخبرة او المعرفة التي بالإمكان اقناؤها من أي مكان في العالم بمقابل.

ابو زيد
المعلق(ة)
13 أكتوبر 2021 01:28

اتحصر على ابنائنا في تكوينهم…
المغاربة ليسوا أغبياء لهذه الدرجة، و ما اصرارهم على تسمية وزراء التقنوقراط بماهم ، الا لانهم في نظرهم لم ينجحوا فيما كانوا فيهم!
و ان كان موقعكم لا يحيلكم مثلا على جرادة ، او ما صرحت به سفيرة فرنسا بعد اطلاعها على….
اذا أردنا ان نبني وطنا قويا علينا ان نقبل اننا نخطئ و نصيب….
لم تكن الوطنية خنوعا بل جرءة، نحن و كثيرون بل اغلب المغاربة وفيون لعهدهم مع الوطن و عاهله و طبعا لله!!

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

4
0
أضف تعليقكx
()
x