لماذا وإلى أين ؟

“الفكـرُ اللِّبــــرالي”

بعد انهيار جدار برلين و تداعيات البريسترويكا التي أعلنها غورباتشوف أواخر ثمانينات القرن الفائت، أسدل الستار على مرحلة مديدة و ساخنة في العلاقات الدولية، سخونة بلغت قمة الروعة في حوادث مثل أزمة صواريخ كوبا على عهد الرئيس خروتشوف، هذا الذي أشهر “حذاءه ” من على منصة الأمم المتحدة في وجه خصومه “الكولونياليين”.

انهيارُ جدار برلين، برمزيته المثالية و أبعاده المتنوعة، كان أمراً متوقعا عند النابهين في علم السياسة، على عكس الغافِلين، فهؤلاء لم يصدقوا الحقائق الماثلة أمام مُقلهم، و انتظروا ردحا من الزمن لاستيعاب تلك الحقائق الواقعة و فهمها، فَهُمْ، كما بدا ذلك لاحقاً، كانوا يعانون عُسْرا في هضم الواقع و استيعابه، فمع حصول الانهيار، ثبت الانتصار الباهر للبرالية، لا باعتبارها مجرد مشروع مجتمعي ناجح، بل أيضا كمرجعية فكرية لامعة للأنظمة الرأسمالية، و ثبتت كذلك هزيمة أوهام الإشتراكية و خيالات الشيوعية التي نظَّر لها الحالمون ككارل ماركس، أو المستبدون الغاشمون كالرفيق لينين.

و بذلك، اضطر أساتذة العلاقات الدولية لإجراء مراجعة “اصطلاحية” و التخلص النهائي من إيراد عبارات مثل” الثنائية القطبية” في مصنفاتهم، فالعالم، بعد أن كفَر بأحد قطبيه، انتهى به الأمر “مؤمنا موحدا” و لا يُشْرِكُ بالقُطب الواحد أحداً، و هكذا ركن الناس للاستظلال بفيء اللبرالية الذي غمر العالمين.

خلال “عهد الزعيمين” البائد، كان لِكِلا “القُطبين” أتباعه في “حضيرة العرب”، فقد انقسم هؤلاء إلى منبهر و موالٍ للغرب، و إلى مُوَلٍّ دُبُرَه صوب الشرق باحثا عن شمس تأخر موعد بزوغها، و بعد الإنهيار ألْفى العُرْب أنفسهم، كالعادة، عراة منزوعين من آخر قطعة قماش تستر أدبارهم المُوَلِّية.

حينما كانت أمم العالم تخطط للقادم و تضع الأسس “العالمة” لبناء صرح مستقبلها، عكف العرب على استغلال عائدات النفط و التلذذ بها في المنتجعات السرية، و بدل اكتساب مكانة قوة التعليم و التدريس مع ما ينتجه ذلك من قوة في التصنيع و في التسليح، اكتسب العربان آلية الصراخ و صارت عـادةً لصيقة بهم، لا يدخرون جهدا في الصياح و العويل بمؤتمراتهم العربية و الإسلامية، و انتهى الأمر بشعوبهم موبوئين بعدوى الصياح في التظاهرات و آفة رفع الشعارات، فـلا تكاد تمضي مظاهرة “ماجنة”، حتى تـَـمُـرَّ بجانبها أخرى أشدُّ “سباًّ و مَرَقاً”، لا يستثنون فيها أحدا من العالمين، عُرْبا كانوا أم من الأعْجمين.

لما أذن الله للولايات المتحدة بإصدار قرار نقل سفارتها من تل أبيب نحو أورشليم، رأى العربان في ذلك مناسبة جميلة لشحذ حناجرهم، و الصراخ في وجه كل من هب أو دبّ على البسيطة، تماما كما وقع عندما أعلن المغرب عن توقيع اتفاقيات أبراهام و بداية تطبيع علاقته مع إسرائيل.

من غرائب العربان في هذا الباب أنهم الجنس الواحد بين أمم العالم الذي اعتاد الصراخ ضد الحكام، محليين كانوا أو أجانب، و بمناسبة أو بدونها. فإذا كانت الشعوب الفطنة تنشغل بحكامها المنتخبين و تتربص بهفواتهم لمحاسبتهم، فإن شعوب العُربان لا تميز في “مظاهراتها” بين حاكم البحرين أو قائد الولايات المتحدة الأمريكية، فالكل حِلٌّ للصراخ و الندب.

العلاقات بين الدول، والمقصود هنا هو الدول الحقيقية لا منتحلي صفتها، مبنيةّ على عنصر القوة بمعناها الشامل، اقتصادا، عِلْما و تسليحا، أما أشباه الدول، كمعظم حالات العربان، فإنها تبني علاقاتها على الأساطير و الأوهام، و تعززها بمواويل “الصراخ”، فقضية نقل السفارة إلى القدس، والإعتراف بمغربية الصحراء تمت دون كثير كلام، برهانٌ ساطع على أن الدولة حين تكون قوية فإن تصرفاتها تكون نافذة و لا يصاحبها الضجيج، و حينما تكون مجرد “قبائل غوغائية”، تتمتع بعضوية الجمعية العامة، فالأمر يختلف حينئذ، فهي تبقى وفية لطبيعتها كــ”ظاهرة صوتية” لا تسمن و لا تغني من داء. و بذلك يتأكد، لمن في حاجة لذلك، أن العالم، يحكمه، في الوقت الراهن، قطب واحد هو “الفكر اللبرالي”.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.

 

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

1 تعليق
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
نقطة نظام
المعلق(ة)
29 يناير 2022 23:39

كاين خلاصة واحدة هي نهاية التاريخ بفكرة تتاسس على فكر فوكوياما.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x