لماذا وإلى أين ؟

هل أزمــةُ التعليم بنيويّــة ؟

منذ أزيد من عقد من الزمان و الحكومات المغربية المتعاقبة تتخبط في برامج يُقال عنها في الإعلام إنها ستنقذ التعليم المغربي من ضلاله و أنها ستعيده إلى رشده، و الحقيقة أن هذه البرامج، المنعوتة بالاستعجال، لم تُفلح في شيء عدا هدر الأموال العامة و الضحك على ذقون المغاربة بمشاريع تبعث على السخرية و التهكم.
قبل فترة طويلة، أصدرت جمعيةٌ مغربية تضم مدرسي الفلسفة بيانا يحتكم، كما بدا، للمنطق السليم، وأعلنت من خلاله أن البرامج المقررة في مادة التربية الإسلامية بالأسلاك التأهيلية تُعتبر تشويهاً عميقا لمقاصد الفلسفة، هذه الفلسفة التي تُعدُّ، وِفْق البيان الصادر باسم مدرسيها ، مُكوِّناً أصيلا من مُكونات الهوية المغربية.
“مؤلفات التربية الإسلامية”، يُضاف إليها أنواع أخرى من الخرافات، وبشكل أكثر تفصيلا ما تضَمَّنتْه بخصوص موضوع مثل “الإيمان و الفلسفة”، و العهدة، بالطبع، على جمعية المدرسين، ما هي إلا كُتبٌ “متزمتةٌ داعية للتعصب والتطرف و التنكُّر لهوية أسْلافنا”بدءا بأجدادنا الأمازيغ، و مُروراً بكِبار فلاسِفة العالم كابْن رُشد وبْن باجّة وبْنِ طُفيل وبْنِ عَرَبي.. وُصولاً إلى مُعاصِرينا من أمْثال عابد الجابري و العروي و الخطيبي”.

بِدفاعهم عن حق الفلسفة في الوجود الطبيعي ضمن المقررات و البرامج الدراسية، وَضَع الأساتذةُ “الحكماء” أصبعَهم فوق الداء و كشفوا، دون مواربة، مكامن الخلل و الإنحراف في منظومة التعليم المغربية، وكيف أنها، في تقدير هؤلاء العقلاء، منظومةٌ فاسدةُ الأساس و لا ترى في التعليم ورشاً لإنتاج المعارف والطاقات وتأهيل الطالب ليُصْبِحَ قادراً على إعمال المنطق السليم و ترجيح كفة التساؤل العقلاني باعتباره أساسا متينا لبناء صرْح العُلوم الحقة.

إن التمثل الخاطئ لدور المدرسة، المُؤَسَّس على اعتبارات وهمية مُغلَّفة بِوَهْم تحقيق مُوازنة مُنْعدِمة بيْن “المعْقول” و “المنْقول”، أفضى في نهاية الأمر إلى تغْليب حُضور “الفـكر” الديني، أو بالأحرى “الشعوذات المُتديّنة”، في مُقررات دراسية و تنْصيبِها مرجعاً “ضروريا” لتحقيق أهدافٍ مُناهضةٍ لحرية الفكر و الانعتاق من ضلالات الماضي، وهذا تأسيسا على مزاعم تقول بـأن “لا تعارض بين الفلسفة الراشدة و الإيمان الحق” و”أن علاقة الفلسفة بالدين هي علاقة تجاوُر وتحاور”!
إذا كانت المُناسبة شرطاً للحديث، فالمُناسبةُ في هذا المقام أني التقيت في أحد الأيام و بالصدفة ثلاث فتيات اعترضن سبيلي بقصد الاستفسار و السؤال، لأتبيّن بعْد ذلك أن الفتيات الثلاث لسْن سوى تلميذاتٍ بمُستوى الباكالوريا وقد كلّفتْهُن، و العُهدة عليهن، أستاذةُ التربية الإسلامية بسؤال المارة عن مدى معارفهم بمناسبة عيد ميلاد الرسول محمد و ما تُشكله هذه المناسبة بالنِّسبة لهم.

لقد اعتبرت الأمرَ مقْبولا في البداية، لكني استهجنته أشد الاإستهجان حين علمت أن التلميذات السائلات ينتمين لشعبة الفيزياء و يدرُسْـن في ثانوية تأهيلية.
هل يُعقل، من باب احترام قواعد المنطق السليم، الزَجُّ بتلاميذ اختاروا دراسة الفيزياء، كعلم من العلوم الحقة، في أتون تساؤلات ذات صلة بتاريخ الإسلام، كمبحث “ميتولوجي” بالدرجة الأولى؟ أم كان الأجدر بالمؤسسة التعليمية، ومن ورائها كامل الحكومة، توفـيرُ المختبرات العلمية و تجهيزها بشكل مناسب لإجراء التجارب المخبرية؟
الإجابة تلقيتها من البنات الثلاث : التربية الإسلامية مادة غير ملائمة لتلاميذ يدرسون بشعبة الفيزياء.لقد ذكرني هذا الجواب “الفيزيائي” بما كان يذكره على مسامعنا أستاذُ الفلسفة بأقسام الباكالوريا نهاية الثمانينات، لقد كان يذكرنا في كل مناسبة بأن الفكر الديني يتأسس على الترغيب و الترهيب و على النقيض من  ذلك، يستند الفكر العلمي على التفكير و التجريب، و قد كان الأستاذ عبد الله عمر موسى يُشير إلى أفكار العالم الفزيولوجي الفرنسي كلود برنار، الذي كان متمسكا بالمنهج التجريبي المعتمد في المقام الأول على ثالوث الملاحظة، الفرضية والتجربة.

هل يعني هذا الكلام أن أزمة المغرب هي في واقع الأمر أزمة تعليم، بكل أسسه و أدواته و مراجعه النظرية، قبل أن تكون أزمة أخرى من الأزمات الاعتيادية؟ و هل تغييب مادة  الفلسفة و تراجع حضورها في البرامج و المقررات و الحصص الدراسية كان بوقع سلبي على إعداد ذهنية التلاميذ بشكل ملائم ؟  و هل يمكن اعتبار هذه الأزمة التعليمية، بسبب ذلك،  أزمة بنيوية لا بد من معالجتها على المدى القريب؟إنها أسئلة تستحق الإجابة في أقرب فرصة.

محمد العطلاتي

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

2 تعليقات
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
مغربي
المعلق(ة)
12 فبراير 2022 12:01

محاولة يائسة لمهاجمة الإسلام ما علاقة هذا بذاك جميع الأطر العلمية البارزة الحالية في المغرب تعلمت بالتدرج بين المسيد و المدرسة العمومية بكل اسلاكها . الخلل بدأ عندما بدأ المغرب يقلد أنظمة تعليمية غربية أوجدها أصحابها لتناسب ثقافة و ديانة و لغات و امكانيات مجتمعاتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. طفل أمازيغي أو عربي أو حساني يجد نفسه في المدرسة يتواصل بلغة غريية عن لغته الأم بينما الياباني و الفنلندي و … يتعلم بلغته الأم أليس هذا هو المشكل الحقيقي و كفى من ممارسة التضليل الفكري و الإعلامي فانتم تساهمون في تعميق أزمة التعليم بدل الوقوف عن الأسباب الحقيقية و خاصة ملف البرنامج الاستعجالي و الملايير التي صرفت عليه سدى!

لغضف علال
المعلق(ة)
12 فبراير 2022 00:27

لا أظن ان في قيام تلميذات متطوعات من شيعة الفيزياء بهذا البحث أي تناقض مع مهمتهن الاستكشافية والتكوينية، ما دام أن ليس كل تلاميذ الفيزياء يتابعوا دراستهم داخل مدرجات كليات العلوم أو كالطب او المعاهد العليا بل إن كثيرا منهم يغيرون الاتجاه نحو الصحافة وكليات الحقوق ، بل منهم من يتجه الى كلية الآداب حتى

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

2
0
أضف تعليقكx
()
x