لماذا وإلى أين ؟

حمضي: إصلاحُ ظــروف تكوين الأطباء من نجاح تحدّياتنا الصحية

الطيب حمضي

بعد تحرر الألسن الذي تلى انتحار طبيب شاب رحمه الله، يظهر جليا اننا أمام ظاهرة يجب البحث عن أسبابها لمعالجتها من الجذور. لمستشفياتنا وكلياتنا وأساتذتنا واطبائنا وطلبتنا كل القدرة والعزيمة لتنقية المسار التكويني من هذه الشوائب وهذه الممارسات المشينة بمحاسبة المسؤولين عنها وبتغيير مؤسسي لظروف التكوين.

الحديث عن الاضطهاد والضغط والإبتزاز خلال التكوين الطبي كان موضوعا مسكوتا عنه أو تقريبا، الى أن فجرته هذه الواقعة. قبل الحديث عن الموضوع استذكر واقعتين واذكر بحقيقتين يجب التذكير بهما لنكون منصفين وعلميين.

1- الواقعة الأولى: الفيديو المرفق مع هذه التدوينة هو لطبيب استاد في طب العيون غادر مصلحة العيون بالمركز الاستشفائي بالرباط والتحق بالقطاع الخاص مند عدة سنوات. يتحدث قبل سنوات في ثوان، من منصة ندوة طبية متميزة حيث كان يُديرُ الجلسة، عن هذه الظاهرة وتحدث عنها بألم ووصفها بقوة. مشاهدة الفيديو القصير جدا تغنينا عن الكلام.

2- الواقعة الثانية: وقد حكاها لي أستاذي وصديقي البروفيسور عبد المجيد بوزوبع أستاذ امراض القلب والشرايين رحمه الله عن معاناته حين ولج مصلحة طب القلب والشرايين بالرباط للتكوين في بداية السبعينات، و عن الفرق الذي وجده حين ذهب لإجراء تداريب بأحد المستشفيات الفرنسية وكيف أن الأستاد رئيس المصلحة هناك استقبله وقدمه لفريق المصلحة و فتح له مكتبته الخاصة لأخذ الكتب الطبية منها، واستضافه وساعده حتى في قضايا خارج المصلحة كشاب أجنبي، وكيف يتعامل الأستاذ مع الفريق ويتقاسم مع تلامذته معارفه وخبرته ويشجعهم ويصحح اخطاءهم الببيداغوجية ودون تعالٍ .

3- الحقيقة التي يجب التذكير بها: المستشفيات الجامعية مليئة بالأساتذة والمُكونين الأكفاء، ولاد الناس، الذين لا يدخرون جهدا في تقاسم معارفهم وتجاربهم مع الأجيال الجديدة. ولكن كذلك بجانبهم هناك آخرون يسيئون لمهنة الطب ولشرف مهنة الطب ويدمرون أجيالا من الأطباء والصيادلة الذين يتكونون تحت إمرتهم. والحديث عن الفئة الأخيرة لا يجب مطلقا أن تحجب عنا الفئة الأولى.

4- التكوين الطبي في دول العالم يجعل الأطباء في طور التكوين تحت ضغط هائل من حيث ظروف العمل وساعات العمل وغيرها من العوامل، فاذا أضيفت اليها ظروف عنف مؤسساتية او اضطهاد شخصي من طرف الرؤساء تصبح المسألة قنبلة موقوتة.
قضية انتحار الدكتور رشيد ياسين رحمه الله و ارتباطها من عدمه بمعاناته من الضغط والإضطهاد خلال تداريب بإحدى المصالح الإستشفائية بالمغرب حسب روايات عائلته و زميلاته و زملائه هي قيد بحث اداري و بحث قضائي لتدقيق الأسباب وترتيب المسؤوليات.

لكن، سواء كانت واقعة الانتحار مرتبطة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة بما عاناه المرحوم خلال تكوينه الطبي، فان الوقائع التي يسجلها زملاؤه والتي تؤكد تعرضه للاضطهاد والضغط والترهيب خلال تكوينه بمصلحة معينة، بل يتحدث هؤلاء عن معاناتهم من نفس الظروف التي عانى منها زميلهم المتوفى. لذلك فان الأمر لا يتعلق بمجرد حالة معزولة يتقصى التحقيق القضائي بل بظاهرة على التحقيق الإداري والأبعد من اداري أن يذهب ابعد من ذلك لمعرفة مدى صدقية اتهامات الحكره والابتزاز والاضطهاد داخل بعض المصالح المعروفة بالمستشفيات الجامعية، ومدى اتساع رقعة هده الظاهرة وتمظهراتها، والأسباب الحقيقية والإجراءات التي يجب اتخادها لمحاسبة المسؤولين عنها، والأهم من ذلك بلورة الإجراءات التي يجب اتخادها لعدم تكرار مثل هذه الممارسات.

تفشي هذه الممارسات وسكوت الضحايا عنها راجع بالأساس لكون مستقبل هؤلاء الأطباء معلقا بتوقيع فرد واحد بإمكانه أن يحرمك من اكمال تكوينك بدون حسيب و لا رقيب، ومن هنا يجب أن تنطلق الآليات لإصلاح هده الاختلالات.

القضية اليوم ليست فقط قضية انتحار طبيب وأسبابها ومخلفاتها، القضية اليوم تتعلق بكيف نطهر مستشفياتنا وأماكن تكوين اطبائنا من ممارسات شاذة وغير أخلاقية وغير قانونية وحاطه من الكرامة وابتزازية تسيء لجامعاتنا الطبية ولمستشفياتنا ولأساتذتنا ولطلبتنا. قيام بعض رؤساء مصالح أو من يقومون مقامهم أو مساعدوهم بممارسات حاطه من الكرامة من قبيل الإبتزاز والاستغلال والسخرة والحكرة والتحرش والإتاوات، ممارسات إن صح بعضها فقط وليس كلها، فإن ذلك يعتبر جريمة بل جرائم ضد نبل وشرف مهنة الطب وضد نبل وشرف مهنة التعليم والتكوين وضد الوطن. نعم ضد الوطن. لنعد لدراسة منشورة قبل أشهر فقط أكدت أن 70% من طلبة السنة النهائية من الطب في المغرب يفكرون في الهجرة نحو الخارج، ثلثا هؤلاء من النساء وسطروا معي على هذا الرقم، ويشكل مشكل التكوين الطبي 97.6% من أسباب التفكير في الهجرة. الذين يقومون بهده الممارسات يساهمون في إفراغ المغرب من أطره الطبية نحن في أمسن الحاجة إليها.

لذلك يمكن القول إن إصلاح ظروف تكوين الأطباء من ظروف مادية و تأطير طبي وظروف آمنة صحيا ونفسيا جزء لا يتجزأ من مجهودات بلادنا للحد والتحكم في هجرة الأطباء نحو الخارج و جزء لا يتجزأ من إنجاح أوراشنا الطموحة لتعميم التغطية الصحية وتأهيل المنظومة الصحية الوطنية.

طبيب وباحث في السياسات والنظم الصحية

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x