لماذا وإلى أين ؟

النخب المغربية الفرانكفونية وفرنسا .. القطيعة الجذرية الثانية؟

عبد الحميد اجماهيري

مضى زمان طويل لم يكن الشعور الشعبي في دول الجنوب تهديدا استراتيجيا لدول الشمال، كما هو اليوم حال فرنسا مع الشعور العام في القارّة الأفريقية. كما لم يحدث أن انتهت إشكالات ثنائية عديدة تبدأ سياسية إلى إشكالات لغوية، كما نتابع حاليا في حوليات الموقف المعبر عنه من النخب في القارّة عموما، وفي المغرب خصوصا. وصار الأمر يأخذ كل أبعاده التوترية كلما رافَقتْه أزمة سياسية لا تخفي ظلالُها الباردةُ حرارةَ العوائق المتبادلة.. ففي المغرب حاليا، تجتاح النخبة الفرانكفونية موجة جفاء تجاه فرنسا لم تسبق ملاحظتها بهذا القدر الذي يثير التساؤل في الوضع الحالي. وإذا كان جزء من النخبة المغربية ألفَ انتقاد فرنسا تاريخيا، بل بنى شرعيته الهوياتية على ذلك، فإن مردّ ذلك إلى الترابط الذي قام منذ أيام الاستعمار، وفي بدايات الاستقلال، بين جزء مهم من النخبة والطريقة الفرنسية في “التنخيب” (إنتاج النخب)، ما جعل الانتقاد، في جزء كبير منه، يكون مصدره النخب الوطنية والتقدّمية، وإن كانت قد تلقت تعليمها وتكوينها في المنظومة العلمية الفرنسية.
لهذه المقدّمة أسبابها التي تفسّر ما سبق، غير أن الواقع الراهن شملت موجة استيائه العميقة جزءا واسعا من النخبة الفرانكفونية التي لا جذور لها في خريطة الفترة التحرّرية، بل يمكن القول إنها كانت حالمة بالتحديث، انطلاقا من الوعاء الفرنسي، بكل حمولات الأنوار والقوة الفكرية والتدبير العقلاني وما إلى ذلك.
ولعل النقطة التي تُشعر المغاربة بأن فرنسا، الحاضنة الفلسفية والفكرية والأخلاقية لجزء من تصور النخبة عن نفسها، وتصوّرها عن صناعة النموذج الناجح في تسيير قضايا الدولة والنظام السياسي والاقتصادي والثقافي بشكل أكبر تتلخص حاليا في “التعالي الذي تعاملت به فرنسا مع مطالب المغرب والمغاربة”. وتشكل التأشيرة (الفيزا بلغة موليير ولغة التداول الشعبي) حاليا الخلاصة الأكثر إيلاما لهذه النخبة التي وثقت في فرنسا كثيرا، وهي لحظة ترابط نِيتْشوية (نسبة إلى الفيلسوف الألماني فرديريك نيتشه)، بمقتضي قولته الشهيرة “أنت من بين الجميع أكرهك أكثر لأنك أغريتني ولم تحتفظ بي”!

ومنذ أن فرضت فرنسا ــ إيمانويل ماكرون التقليص بنسبة 50% من التأشيرات الممنوحة للمغاربة، تعرّضت النخبة لعملية تحقير ديبلوماسية خلفت ردود فعل قوية، وصلت إلى حد مطالبة المغاربة دولتهم بفتح الملف المتعلق بـ”الذاكرة الجريحة” بين البلدين والإجرام التي استعمله الاستعمار في حق أبناء المغرب، وهو موضوع لم يحظ بِراهنيته سابقا، كما في دول أخرى من المغرب الكبير وأفريقيا.
في استقبال الرئيس الفرنسي ماكرون في قصر الإليزيه، في أكتوبر/ تشرين الأول من السنة الماضية ساعتين، 18 شابّا فرنسياً من أصول جزائرية أو جزائريين وغيرهم، بدا من خلال الكلام الموجّه إليهم، وكأن العقاب بالتأشيرة سيمسّ الأنظمة المغاربية كلها، لكن التخفيف من حدّة القرار مع دولتين من أصل ثلاث أشعر المغاربة بأنهم المعنيون بمقولة ماكرون “سنقوم بالتضييق على الأشخاص ضمن النظام الحاكم، الذين اعتادوا على التقدّم بطلب للحصول على تأشيرات بسهولة. هي وسيلة ضغط للقول لهؤلاء القادة إنه إذا لم يتعاونوا لإبعاد الأشخاص الموجودين في وضع غير نظامي وخطير في فرنسا، فلن نجعل حياتهم سهلة”. وقد مسّت القرارات رسميين ورجال أعمال ونخبا رياضية وفنية ودكاترة ومرضى يتابعون علاجهم ببروتوكول فرنسي محض، وطاول حرمان النخبة من التأشيرة رسميين من طراز رفيع، تتحدّث بأسمائهم صالونات العاصمة!
وضاعف من درجة التوتر ما تم تبادله من كتابات من الضفتين، وكانت الأكثر إثارة فيها ما كتبته النخبة الأدبية والفكرية المغربية التي ربَّت خيالها في لغة موليير، أو التي أنتجت بها حداثتها الفكرية، وقد عبّرت بدون مواربة عن أحد الموقفين: موقف دعوة فرنسا إلى تجاوز الجفاء، وعدم التضحية بالمغرب في توازنات المغرب الكبير، كما كتب الطاهر بنجلون، صاحب جائزة الغونكور الشهيرة، في مقال له في صحيفة لوبوان الفرنسية، والذي أقر فيه في الوقت نفسه بأن المغرب تجاوز فرنسا، حين “بدأ في تنويع علاقاته وصداقاته السياسية والاستراتيجية، بتوقيعه على اتفاقات أبراهام، ونجاحه في تغيير موقف الجار الإسباني في ما يتعلق بالصحراء، ونأى بنفسه عن فرنسا”. وموقف آخر يعلن فيه أصحابه، ومنهم الروائي والجامعي فؤاد العروي، بأن “عهدا من العلاقة قد انتهى ويجب البحث عن أفق جديد”، بل أقرّ بوجود شعور مناهض لفرنسا في المغرب يزداد كل يوم، وأن مرحلة انتهت بين فرنسا ونخبة مغربية قريبة منها في خضم شعور شعبي عام مناوئ لها.

في المقابل، انتبهت القيادة الفرنسية إلى موجة العداء العميقة التي تخترق النخب الأفريقية عموما، والمغربية خصوصا، وحاولت الرئاسة أن تَنسب ذلك إلى تأثيرات روسية وأخرى تركية في القارّة، وهو أمر لا ينطبق على المغرب بالذات، بل إن صحافة فرانكفونية مغربية تجعل أغلفتها الأسبوعية تحت “مانشيتات” تعكس هذا النفور، كما أنها تحدّثت عن فرنسا “وموهبتها الرهيبة في فقدان الأصدقاء” في هذه الفترة. ولعل العداء الذي تغذّيه فرنسا في المغرب يصيب الطبقة الوسطي العليا إذا شئنا القول، كما يمسّ النخبة التي تشكلت في رحم اللغة وفي الاقتصاد وفي الإدارة وفي مركز الدولة كنخبة صاحبة قرار.
وقد سجّل المغرب في الماضي وجود نخبة استطاعت أن تتكون في خضم الوعاء اللغوي والفكري الفرنسي، وهي التي قادت، في جزء كبير منها، المفاوضات من أجل الاستقلال، بل حول الترابط المتبادل بين البلدين، وسرعان ما كانت السند الرئيسي لبلدها في مواجهة الفرنسيين، حتى أن المفاوض الفرنسي الرئيسي، إدغار فور، كان يشيد بدرجة إتقانها اللغة الفرنسية وتأثرها بالتراث الفكري الفرنسي التقدّمي منه أو الفلسفي أو الليبرالي المتنوّر.. وهذا لم يمنعها من أن تسعى إلى تكوين الاقتصاد والمدرسة والمؤسّسات المحلية على قاعدة التحرّر الوطني، وذات نفَسٍ تحرّري بعيد عن الوصاية (تحرير الدرهم وإقامة النظام البنكي المغربي، وتنويع التمويل مع الإيطاليين وضع البنيات الصناعية الكبرى من قبيل شركة التكرير سامير ومعامل الصلب والحديد .. إلخ)، وكانت تلك القطيعة الأولى للنخبة مع حاضنتها اللغوية.
ولطالما كان التمييز باللغة أحد اسباب الاختلال في التنخيب (إنتاج النخب) والتأهيل المعرفي للدخول إلى دائرة الطبقات العليا المتحكمة. وفي هذه الخطاطة، كان التعليم العنصر العملي الحسّاس في إنتاج النخب التي تشمل طاقم الدول، بل يذهب الباحثون (بيير فيرمورن مثلا) إلى التشديد على قانوني “التبعية والإدماج” في تكوين النخب في المغرب الكبير، وعبر دمجها في النظام الفرنسي أولا، ثم الأوروبي ثانيا.

وفي خضم القطيعة الثانية، قبل الأزمة حتى، بدأت إعادة التفكير في هذا المنحى علانية، وبمؤسّسات دستورية وأخرى توافقية بين طبقات المجتمع وتشكيلاته السياسية. وكان من اللافت أن جزءا كبيرا من اللجنة المكلفة بصياغة النموذج التنموي الجديد للمغرب، وفي قلبه المسألة اللغوية في التدريس، التي وضعها ملك المغرب محمد السادس، لصياغة خريطة الطريق في أفق 2035 قد ترأسها سفير المغرب في باريس، وأحد الخبراء الذين عملوا في النظام الشامل للدولة، وخلصوا إلى ضرورة إعادة النظر في الهندسة اللغوية للمغرب عبر الانفتاح على الإنكليزية. وكان لافتا أنه هو نفسه، باعتباره وزير التربية الوطنية حاليا، اتخذ قرار إدماج الإنكليزية في الأقسام الابتدائية، وهو قرار لا سوابق له في المدرسة المغربية.
ختاما، يمكن القول إن التاريخ يفيد بأنه في العلاقات المتشابكة بين المستعمر السابق والدول المستقلة تصبح اللغة قانونا: في السلطة، وفي النفوذ، وفي الاقتصاد، كما في تحديد الهويات. وبالرغم من أن للنخبة الفرانكفونية حضورا قويا في التأثير على القرار الفرنسي، عكس النخبة “الإسبانفونية” المغربية مع الجزيرة الإيبيرية، من الأدب إلى البرلمان إلى العلوم والجامعات والصناعات الفكرية، فإنها اليوم لا تخفي تبرّمها من فرنسا ماكرون، التي تبدو قريبة إلى ما كان يسمّى “فرانس أفريقيا”، التي رعت ذاكرة المستعمرين القدامى .. ولا شيء يمكنه أن يعيد الأمور إلى نصابها إلا قرار متقدّم في قضية المغاربة الأولى، أي الصحراء التي يغفر باسمها المغاربة كل شيء سبق، وهذا موضوع آخر.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

2 تعليقات
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
salim
المعلق(ة)
10 أكتوبر 2022 17:55

عجيب،واحد من الاتحاد الاشتراكي يتبنى افكار و ستراتجية التيار الاسلامي لفك الارتباط مع فرنسا…هزلت !

احمد
المعلق(ة)
10 أكتوبر 2022 13:24

اول خطوة في فك الارتباط بفرنسا اقتصاديا وفكريا، هي إقامة تعاون ثقافي مع الدول الانكلوساكسونية لتدارك السنوات العجاف، التي تميزت بانعدام المراكز الثقافية لتشيع لانجليزية والاكتار من البعثات الفكرية والعلمية، التي لا زالت تتميز بها فرنسا في المغرب، واسترجاع المكتبات المجانية لتشجيع القراءة بالانجليزية، والاشراف على تكوين جيد لاساتدة هذه اللغة، ولما لا استقدام اساتذة من افريقيا وانجلترا متخصصين في اللغة الانجليزية.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

2
0
أضف تعليقكx
()
x