لماذا وإلى أين ؟

الراب المغربي… تجريب على حدود الموسيقى

أشرف الحساني

قطع فنّ الراب في المغرب أشواطاً فنية طويلة، منذ بدايات الألفية الثالثة إلى حدود اليوم. إذ غدا من الألوان الفنية التي تميز الموسيقى المغربية، وتجعلها تتخذ مكانة رفيعة داخل عدد من المهرجانات العربية، رغم أنّ الوعي بهذا اللون الغنائي، ما زال ضعيفاً في علاقته بالمؤسسات الموسيقيّة بالعالم العربي، بسبب جرأة كلماته وقدرته على التأثير في مجريات الحياة الاجتماعية اليومية.

وبالتالي، إنّ السلطة كانت تعتبر مجمل أغاني الراب أشبه بخطابات راديكالية غايتها التشويش على نمط تفكيرها وآليات عملها داخل الواقع. لكن مع بدايات الألفية الجديدة، لم تعُد السلطة تجد في هذه الأغاني أيّ خطرٍ على استمراريتها، بسبب تحولات مفاهيمية جمالية ألمّت بفنّ الراب، جعلت مؤسسات كثيرة، تسعى جاهدة لاستقطاب أكبر عددٍ من الأسماء المؤثرة في المستمع، لا كنوعٍ من التشجيع الموسيقي والاستمرار الفني، بل بحكم عائداتٍ ماديةٍ يجنيها منتجون وموزعون من هذه الأغاني، التي لا تخرج في مجملها عن النمط الموسيقي الغربي.

غير أنّ قبوله من لدن مؤسساتٍ رسمية، لم يأتِ كذريعة اعتراف بعملها، ولا بسبب تراجع مفهوم الجرأة وخفوت الكلمة فقط، بل بحكم التحوّل الجمالي، الذي أصاب الأغاني في بنياتها الداخلية، وما يرتبط بها من تأليفٍ وعزفٍ وتصوير للكليب، ما يفسر سرّ نجاح بعضٍ من أغانيه، لأنّ منطلقاتها تغيّرت، إذ لم يعُد هدفها إيديولوجياً، ولا يتخذ أيّ نزعةٍ نقدية، بل فقط كلمات رومانسية، يجري توليفها مع قوالب موسيقية غربية إلكترونية، كمُحاولةٍ لإعطاء العمل الموسيقي شرعيته الجمالية وصبغته الموسيقية المعاصرة.

ولم يتوقف الأمر عند تجارب مغربية أولى، كانت تتلمس طريقها صوب الموسيقى الإلكترونية، لأنّ مجمل التجارب الموجودة اليوم، تبدو وكأنّها تخلق الحدث الفنّي انطلاقاً من الموسيقى الإلكترونية. فالمواهب غير موجودة والتأليف هشّ وضعيف، إذْ لا يستطيع الخطاب الغنائي حفر مجراه عميقاً في الجسد، بما يجعله يترك جرحاً وأثراً في ذاتية المُشاهد، بقدر ما تبقى الموسيقى الإلكترونية، هي التي تلعب دور الموجّه في سوسيولوجية العمل الفني.

وإذا كان فنّ الراب قد بدأ يُعرف مغربياً منذ عام 2000، فإنّنا لم نشهد طفرته الجماليّة إلا في سنواتٍ قليلةٍ مضت. بعد سطوةٍ فنية ظلّ يُمارسها الراي خلال التسعينيات، كان من الصعب على فنّ الراب خلق أيّ جدلٍ أمام أسماء من قبيل: عمرو وحسني والشاب خالد وسعيدة فكري، باعتبارها أيقونات تربّى على أغانيها جيل أحسّ بمرارة الواقع وحرقة الحبّ. لقد التحم الراب المغربيّ في بداياته بقضايا الناس ومَشاغلهم اليومية، حتّى تحوّل منذ ألبوماته الأولى إلى لسان حالهم السياسيّ والاجتماعي، إذْ كان تقييم الأغنية خاضعاً لمدى ارتفاع منسوب النقد فيها، لا بما تُظهره من اشتغالاتٍ موسيقيّة مُكثّفة.

ظهرت أغاني “دون بيغ” باعتبارها نموذجاً موسيقياً ينتقد مُختلف السُّلطات ويدين فداحة واقعها، فحظيت أغانيه بقلوب الناس في ذلك الوقت المُبكّر، حتّى من طرف الذين لم يستسيغوا أغاني الراب أصلاً. لكنْ شيئاً فشيئاً، بدأت الظلمة تعُمّ والكلمة تهدأ والخطاب يرتعش على حافة الجسد، أحياناً باسم السُّلطة نفسها، وأحياناً أخرى بسبب الرهان على البُعد الجمالي للأغنية. وفي سنواتٍ قليلة، بدأت تظهر العديد من الأصوات كـ”آش كاين” والـ”فناير”، وهي فرقٌ غنائيةٌ مُؤثّرة استطاعت تحرير الراب المغربيّ من الانغماس في السياسة وأوجاعها، وجعلته خاضعاً لشروطٍ جماليّة بدرجةٍ أولى. لم تعُد حساسية الكلمة هي الأهمّ، وإنّما الموسيقى التي تُرافقها وتُصدّع كيانها وتجعلها تنسج مع المُستمع علاقة وجودية.

هكذا تحوّلت الموضوعات من كونها قضايا سياسيّة وإشكالاتٍ اجتماعية إلى مجرّد مَشاعر وأحداثٍ وصُوَرٍ وحالات، يغلب عليها التمثيل الذاتي في مُعاينة وتشريح الواقع والاشتغال عليها غنائياً. لكن من النّاحية الموسيقيّة، ظلّت هذه التجارب فقيرة من ناحية الإبداع، لأنّ وجودها مُسخّرٌ لموسيقى كونكريت صوتية إلكترونية، يتمّ اللّعب من خلالها بالأحبال الصوتية للمُغنّي، فيُصبح وجود الفنّان وسيرته الموسيقيّة ككلّ، مُرتبطين بهذه القوالب الإلكترونية التي تصنع نجوميته في وجدان الناس وذاكرتهم.

لكن في مقابل ذلك، تحضر تجارب غنائية مُذهلة، كما هو الحال في سيرة الرابور المغربيّ “مسلم” (1981) الذي أبان في أغانيه الأخيرة اشتغالاً غنائيّاً مُكثّفاً مولعاً ببهجة الكلمة، فموسيقاه مُتنوّعة وتُكسّر دوماً رتابة شكل الراب وتتقاطع إيقاعاتها بين الراي والشعبيّ، بما يجعل هاجس التجديد الموسيقيّ مطلباً وجودياً. ففي أغنيته MY Lady تحضر جماليّات التأليف بوصفها مُوجّهاً للآلات الموسيقيّة التي لا تعمل إلا على محاكاة الكلمة.

تتميّز موسيقاه بتنوّعها وزخمها، حيث النغمة بسيطة وصادقة وصافية، لا يجعلها تخضع لرتابة السنثسايزر (مركّب أصوات) بل تُطلق صافية وتلقائيةٍ، يمتزج إيقاعها في خفّة مع جماليّات الكلمة. الأمر نفسه يتكرّر مع فرقة الـ”فناير”، حيث للكلمة سُلطتها داخل الكليب، وهذا الأخير يحتلّ مكانة بارزة في اشتغالاتهم الموسيقيّة، فهو مُتنوّع من الناحية البصريّة، وله قُدرة على التأثير في المُشاهد، لأنّه يضعه أمام اكتشافاتٍ بصريّة مُذهلة ذات علاقة بالتراث المغربيّ الذي يجري تطويعه بصرياً في أغنية “نكول مالي” من جهةٍ، والانفتاح على ثقافاتٍ أخرى، كما هو الأمر في أغنية “ديلبار” مع السينما الهندية من خلال أداء النجمة المغربيّة نورا فتحي.

الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x