لماذا وإلى أين ؟

أزمة التعليم و فوضى التأويل

محمد كرم

استرعى انتباهي مؤخرا تعليق على مقال إخباري ادعى فيه صاحبه ـ و بكل إصرار ـ أن سوء التغذية لدى شريحة واسعة من الأطفال المغاربة هو الشماعة التي يجب أن تعلق عليها أزمة التعليم ببلادنا.

أنا لست هنا بصدد الانتقاص من قيمة هذا التعليق ـ و إن كان مضمونه مثيرا للجدل بالفعل ـ بل غايتي هي التأكيد على وجود نقاش عمومي صحي و غني موضوعه هو معضلة المملكة الأولى و المشاركون فيه ينتمون إلى كل المستويات الدراسية و الثقافية. و طبعا كنت قد صادفت قبل هذا الرأي آراء عديدة و متنوعة أخرى، و في كل مرة لاحظت أن صاحب المقاربة متشبت بوجهة نظره بل و يعتبر الحل المقترح هو المخرج الوحيد و الأوحد للأزمة.

فهناك طائفة لديها قناعة بأن قدر تعليمنا أن يكون مزدوجا على اعتبار أن الوقت لم يحن بعد لفك الارتباط نهائيا بفرنسا التي مازالت حاضرة في كل كبيرة و صغيرة من حياتنا … و حتى على بطائق تعريفنا الوطنية .

و هناك فئة ثانية تعتبر هويتنا الموروثة إرثا مزعجا يعيق العملية التعليمية و عملية التنمية برمتها، بل هناك من أعضاء هذه الفئة ـ حتى في صفوف المتنورين ـ من يعتبر التعريب جريمة في حق المتمدرسين المغاربة.

و هناك جماعة ثالثة لا تبغي عن التعريب بديلا و تعتبره تحصيل حاصل بما أننا ناطقون بالعربية في المقام الأول و تنادي بالإسراع بإحداث أكاديمية اللغة العربية التي ظلت مشروعا على ورق لسنوات طويلة.

و هناك زمرة رابعة تصر على أن التنوير الحضاري و التقدم العلمي لا يكونان إلا بالفرنسية.

و هناك فريق خامس يدعو ببساطة إلى تطليق الفرنكوفونية و ركوب قطار الأنجلوفونية ، و المنتسبون إلى هذا الفريق مقتنعون تمام الاقتناع بأن الأمر يتطلب فقط الضغط على زر.

و هناك شريحة سادسة ترى أن التعليم لا يكون بسبع لغات و إنما يكون بلغة واحدة فقط و بأن الانفتاح على اللغات الأجنبية ممكن و لكن شريطة أن يكون من باب الاستئناس بها بغرض محو الأمية اللسانية و قضاء مآرب محدودة و ليس بهدف إحلالها محل اللغة الرسمية.

و هناك عينة سابعة تعتقد جازمة أن الحل يكمن في إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية مع ترك أبواب المدارس الخصوصية مفتوحة في وجه التلاميذ الفاشلين فقط كما كان عليه الأمر في السابق و مع ترك أبواب المدارس الأجنبية مفتوحة في وجه الأجانب المقيمين على ترابنا الوطني دون غيرهم.

و هناك جزء لا يستهان به من أفراد المجتمع نراه يربط إشكالية التعليم بانسداد أفق التشغيل بحكم أن العلاقة ثابتة بين التكوين و الأداء الاقتصادي.

و هناك عدد متزايد من دعاة التلهيج الذين يعتقدون بأنه قد حان الوقت لاستبدال الفصحى بالدارجة بالمدرسة المغربية … حتى و إن استلزم الأمر الإلقاء بكل رصيدنا الأدبي و الفكري و الديني المكتوب بالفصحى ـ قديمه و حديثه ـ في صندوق القمامة !!!!
و هناك من يعتبر أن طبيعة الأزمة مادية أساسا لذلك نجده ينادي بالرفع من أجور رجال و نساء التعليم و ترسيم المتعاقديــــــن منهم و إحداث كليات حتى في أصغر المدن و توفير النقل المدرسي حتى على قمة جبل توبقال.

و هناك من يعتبر أن المناهج التربوية المعتمدة هي مكمن الداء و يدعو في كل مناسبة إلى استيــــــراد الناجح من الوصفات الأجنبية و تطبيقها بحذافيرها بغض النظر عما إذا كانت صالحة لواقعنا أم لا.

أما أهل السوسيولوجيا فمنهم من أضاف إلى الاعتبارات الكلاسيكية أسبابا أخرى و توسع فيها من قبيل التأثير السلبي للاكتظاظ بالأقسام و انتشار المخدرات و الفقر المتفشي و الهشاشة الاجتماعية و تقلبات القيم و ازدهار صناعة التفاهة و سوء الجكامة و تبعات الثورة الرقمية التي عوض أن تساهم في تحسين مناخ التعليم ـ كما كان منتظرا ـ عمقت في المقابل من أزمته… بل ربما منهم من تناول بالتحليل حتى الساعة الإضافية على أساس أنها عامل من عوامل الهدر المدرسي.

و هناك … و هناك …

بل من غير المستبعد أن يكون ضمن حاملي الحـلول من يلقي باللائمة على غياب السبورة التفاعلية بجل الأقسام أو على تكلفة “الكونيكسيون” التي ليست في متناول كل التلاميذ أو على قساوة بعض المدراء و فظاظة بعض الحراس العامين !!!
المهم، تعددت الأسباب و التأويلات و الكارثة واحدة.

لكن ـ و اسمحوا لي إن حشرت نفسي في فوضى التأويل القائمة ـ ما هو نصيب الهوية من النقاش الدائر ؟ هل هندسة المنظومات التربوية تتم وفق اعتبارات رياضية فحسب ؟ هل يمكن تصور وجود منظومة تربوية منسلخة تماما عن واقعها الحضـــــــــــــاري و محورها سوق الشغل دون سواه ؟ هل هناك نظام تعليمي واحد فوق هذه البسيطة يسع لكل الحضارات و لكل اللغات و لكل المرجعيات ؟
للأسف، لم يجب على هذه الأسئلة سوى قلة من المنظرين و حملة الأقلام لا لشيء إلا لإيمان معظم المغاربة بأن التعليم عملية تقنية صرفة غايتها الوحيدة حشو دماغ التلميذ بما سينفعه في حياته المهنية و ليس تأهيل المواطن المتعدد الأبعاد، و الحال أن ثمة اليوم أطرا و تقنيين بأداء مهني عال لكن بلا هوية. فهناك طيارون لا يحفظون من القرآن شيئا، و محاسبون لا يميزون بين المعطي بنقاسم و ابراهيم العلمي، و أطباء ليست لهم القدرة على تحرير شهادة طبية بسيطة باللغة الوطنية، و مسؤولون لا يجدون غضاضة في كتابة الإعلانات و المراسلات بالفرنسية، و صيادلة ليس باستطاعتهم ذكر شهور السنة الهجرية بترتـــيبها المعروف، و مهندسون لم يسمعوا قط بأسماء رجال و نساء من قبيل الطيب الصديقي أو أحمد شوقي أو فدوى طوقان أو فاطمة المرنيسي.

إن الفرنسيين لا يترددون في وصف منظومتهم التربوية بأنها منظومة علمانية و بأن قاطرتها هي اللغة الفرنسية، و السعوديون لا يخجلون من اعتبار منظومتهم منظومة إسلامية تتخذ من لغة القرآن قاطرة لها، و الإسرائيليون معتزون باللغة العبرية و لا يخفون الطابع اليهودي لمنظومتهم ، و الروس … و الأمريكان … و الألمان … و في المحصلة، فقد خلقنا الله شعوبا و قبائل لنتــــــــعارف و ليس لغاية تشبهنا ببعضنا البعض.

فهل نحن حفاة عراة بدون تاريخ و بدون قيم و بدون ثوابت حتى يظل نظامنا التعليمي مفتوحا على كل التيارات ؟ أليست الهوية هي صمام الأمان لحماية ناشئتنا من الاستلاب و الضياع ؟ و لمصلحة من ستستمر مدارسنا في تخريج شباب لا يحسنون حتى التحدث بالدارجة الصافية و يرون بأن تحرير رسالة عربية باعتماد حروف لاتينية أمر طبيعي جدا جدا ؟

إني لا أدعي بأن التعاطي مع سؤال الهوية هو مخرج الأزمة الوحيد لكني مقتنع بأن منظومة تربوية بدون هوية لا تستحق أن توجـد و أعتبر ـ بحكم تجاربي و معايناتي و سفرياتي و مقارناتي ـ بأن الاهتمام بالجانب الهوياتي مدخل مركزي لحلحلة الوضع جزئيا في انتظار الانكباب على ما هو مادي و إجرائي و تنظيمي و منهجي و في انتظار ضبط كل ما يتعلق بالموارد البشرية و آليات التطوير و التوجيه و التقييم و التقويم.

أتمنى أن يسدل الستار في أقرب وقت على هذا النقاش الذي كان من المفروض أن يغلق نهائيا قبل أكثر من ستين سنة غداة حصولنا على الاستقلال و أن يتحلى أصحاب الحل و العقد بالشجاعة اللازمة و أن يستحضروا المنطق و التفكير السليم عند انكبابهم على إصلاح ما يمكن إصلاحه و أن تكون غايتهم الأسمى هي خلق أجيال بمناعة حضارية عالية و بتكوين علمي متين و ألا ينساقوا وراء كل الأهواء حتى لا تتمخض عن جلساتهم و مشاوراتهم وصفة غريبة جديدة لن يتولد عنها سوى المزيد من “التجلويق” … و من سار على الدرب وصل، و من سلك كل الدروب تاه.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

1 1 صوت
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x