لماذا وإلى أين ؟

“قـــــــــــــــــيودُ الجَهل”

محمد العطلاتي

في سابق الأيام، كان معظم الناس يتفادون في مناقشاتهم الحديث عن أمور تتعلق بالسياسة أو بتحليلاتها و بمواقف الزعماء و المعارضين السياسيين، و كان القيام بذلك، عند الضرورة، لا يتم إلا خلسة من أعين أعوان السلطة و مخبري الشرطة، أما تأسيس “الجمعيات” و “المكاتب” و “اللجان” و “التنسيقيات” و ” المنتديات” فقد كان ضربا من ضروب الجنون، حتى إن تأسيس منظمة مثل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، تطلب حشد عدد كبير من المحامين و المثقفين والأساتذة و السياسيين و رجال القانون،لا تتوفر “الجمعيات المعاصرة”، و هي مجتمعة، على واحد بالمائة منهم.

في هذا العصر، أصبح المغرب، بعد أن تحرر أبنائه من معصرة القمع والرقابة، يشهد تحولات عديدة، من مظاهرها انتشار واسع في استخدام مصطلحات قديمة/جديدة من طراز : المجتمع المدني، و الواقع أن هذا “المجتمع” الموصوف بكونه “مدنيا” و ليس “عسكريا”، لا يُعرف له أصل أو نسب، لكن “تعاظُمَ” شأنه في المحافل جعله هدفاً و غايةً للجميع.

الدستور المغربي، الذي يعتبره عديد من رجال القانون “ممنوحا”، انساق وراء “بدعة” المجتمع المدني و ساير ركبها، لكنه في واقع الأمر لم يأت بجديد، بل أتى فقط ليكرس الواقع العددي المستفحل للجمعيات، إذ يبدو أن فقهاء “المستقبليات” المغاربة علموا أبناءهم “سحر” الجمعيات، و أكدوا لهم، تأكيدا “نافيا للجهالة”، أن “المستقبل الحقيقي” سيكون حتما حليفا لهذه الكائنات الشبحية. و هكذا أمسى البلد مسرحا عريضا لآلاف ” الجمعيات” مكونة بذلك مجتمعا مدنيا “مصابا بالبدانة” لا بالتمدن، و بالسمنة لا بالمدنية.

“البدانة” التي لحقت مجتمع “المدني” كانت لها بالمقابل آثار إيجابية على بعض القادة “المدنيين”، فبعضهم تحول من فقير معدم الحال إلى غني موسر، واتخذ لنفسه العمل “الجمعوي” سبيلا من سبل “التنمية الذاتية المستدامة”.

ما أصاب حال المجتمع المدني انتقل، بعد تحرير الإعلام، ليصيب “الإذاعة”، هكذا و بين عشية و “أثيرها” فُتِحت منصات إذاعية، لتفتح نيران برامجها “قاصفة” آذان الناس بأقاويل و بأخبار و بأحاديث ما أنزل الله بها من سلطان، منغصة أحوالهم بأحاديث قوم يعمهون في “استوديوهاتهمّ.

معظم “الإذاعات” فتحت فوهاتها،حتى لا نقول مخارجها، في اتجاه الأثير بإمكانيات بشرية بالغة التواضع، حتى إن الجديد الذي انتظره الناس من هذا التحرير الإعلامي لم يظهر له أثر و لا أثير، و باتت المحطة تنقل من أخواتها الشقيات لتعيد تسويق نفس البضاعة الفاسدة.

لا تخلو كل محطة من برنامج لتلقي الشكاوى، لينعم مقدمه بسيل من الاتصالات و يجد بيده الدليل “الدامغ” على علو مكانة برنامجه و أنه مُتابَعٌ من طرف الجمهور الواسع.

لكن المعرفة، الناتجة عن الرصد والمعاينة، أثبتت احتراف عدد من الناس عادة الاتصال بالمحطات الإذاعية “فقط للإستماع لصوتهم عبر الأثير”، فمع الصباح، تجد الواحد من المتصلين يسأل عن أمور الصحة والتغذية، و في فترة الظهيرة ينتقل لإبداء الرأي في مسائل لا علم له بعناوينها، و عند المساء، لا يتوانى في اقتحام برامج المسابقات بإجابات لا تقل سخافة عن الأسئلة المتبارى حولها، أما في عتمة الليل المتأخر فينقلب حال المتصل ذاته ليُسْمِعَ الجمهور شكاويه السخيفة و “المنحولة” في غالب الأحوال
هكذا أصبحت برامج المحطات الخاصة لا تخلو أبدا من برامج “خصوصية”، اختصت باستقبال “الشكاوي” المزعومة و ” المظالم” المفبركة.

المتصلون بالبرامج الإذاعية، و هم يقذفون شكاويهم الغبية، يبدون في غاية السعادة لمجرد أن صوتهم سيُبَثُّ عبر الإذاعة، بل منهم من يتحدث عبر الهاتف و” يستمع لنفسه”، في الوقت نفسه، عبر جهاز الراديو، أما مقدمو برامج” الشكايات”، فيبدون في أزهى أوقاتهم وهم يمارسون “سلطة تلقي الشكايات” لِيَبُتُّــــوا فيها دون استشارة أو مداولة !

إنه، كما يبدو، عصر التواصل الذي لحق المغرب بعد عهد “المسلسل و الإجماع”، عصر “التحرير”، تحرير التواصل من الكلفة المادية، لكن دون تحرير أغلبية الجمهور من قيود الجهل.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

 

 

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x