لماذا وإلى أين ؟

الشّــعبوية” القضـــائية: أو الخطــرُ الداهـــم ؟!

عبد الرزاق الجباري 
لا شك أن مبادئ السياسة الجنائية المعاصرة، كما ترسخت نواتُها في الفكر الجنائي الحديث، تتأسس على ما أسفر عنه تطور العقل الفلسفي لدى مختلف المدارس الجنائية، بدءا من المدرسة التقليدية بنوعيها، القديمة والجديدة، مرورا بالمدرسة الوضعية ثم المدرسة التوفيقية بينها وبين التقليدية، وانتهاء بمدرسة الدفاع الاجتماعي بصيغتيها، القديمة والجديدة.
ومعلوم أن من أبرز هذه المبادئ، ما تمت بلورته بخصوص أهداف السياسة الجنائية في المجتمعات الديمقراطية، والتي تروم، بالأساس، بلوغَ ثلاثـــة مقاصد كلية موَجِّهة للمقصد الأسْنى، وهو: الحد من الجريمة. وهذه المقاصد الثلاثة، هي: تقييدُ حق المجتمع في العقاب بالحد الأدنى لفائدة الحرية، وإعادة تأهيل الجناة للتأقلم مع قواعد العيش المشترك، وتفريدُ العقاب كوسيلة من وسائل هذا التأهيل.
ولتحقيق هذه المقاصد، استقر الفكر الجنائي المُعاصر على وضع قاعدتين اثنتين ضامنتين لها:
أولاهما: الضرورة التجريمية القصوى، ومؤداها أن الجزاء الجنائي يُعَــدُّ استثناءً من الأصل في أفعال الإنسان الذي هو: “الإباحة”، ولا نصير إليه إلا عند الضرورة، ويصبح ضروريا حينما ينطوي السلوك على ضرر أو خطرٍ أشدّ اتساعا من أن ينحصر في فردٍ معين أو فئةٍ بعينها.
ثانيتهما: العدالة التجريمية، ومُؤدَّاها ألا يكون تدخلُ المشرع الجنائي نزولا عند إرادة تحكُّمية أو إشباعا لنزوة عارضة، وإنما يتعين أن يكون تعبيرا عن الضمير الجمعي للمجتمع، وذلك عن طريق تجريم السلوك الذي يلحق مساسا بالقيم المعتبرة أساسية من طرف أغلبية المواطنين، بناء على دراسات علمية اجتماعية يتبنى مخرجاتها ممثلوهم في البرلمان. وهذا ما يصطلح عليه بـ “القانون الجنائي الديمقراطي” حسب تعبير المفكر J. LEAUTE .
وفي خضم ما اعتملَته هاتان القاعدتان في صناعة التشريع الجنائي لمدة طويلة من الزمن، خصوصا في ظل المجتمعات الديمقراطية التي تجعل من الحرية وحقوق الإنسان محور قوتها وتماسكها، برز تيارٌ حركيٌ جماهيري مناهض للديمقراطية العقلانية الجنائية، ميالٌ إلى الرغبة في العقاب وتشديده، قوامه التماهي مع ما يعتقده طموحات وآمالات “شعبية” ولو كانت مجافية لقواعد النظام الديمقراطي، وهو ما اصطلح عليه في عرف وأدبيات السياسة الجنائية بـ “الشعبوية الجنائية” حسب تعبير القاضي المفكر D. SALAS.
وينبني هذا المفهوم، أساسا، على جملة من المواقف المنتمية إلى حقل السياسة الجنائية، المدعومة من فئة مؤثرة من “الشعب” ضد مؤسسات الدولة، الحكومية منها والتشريعية، والمرتكزة على بعض الأحاسيس والعواطف الشعبية التي تستغلها بعض الحركات المدنية والثقافية والدينية والإعلامية.
وبالرغم مما يتميز به هذا المفهوم من الاستغراق في تبسيط القضايا الجنائية المعقدة وتسطيح عناصرها القانونية المركبة، وطغيان الجانب العاطفي على الجانب العقلاني الذي تمتاز به الديمقراطية الجنائية، والانسياق وراء “النزوات” الظرفية السائدة بفعل ما أحدثته بعض المواقف “المُدَغْدغة” لمشاعر الفئات الشعبية البسيطة، فقد خضع المشرع الجنائي، في غير ما مرة، إلى ما دعا إليه التيار الشعبوي الجماهيري، ونكَص عن العديد من المبادئ العلمية الموجِّهة للسياسة الجنائية المعاصرة، من بينها المقاصد الثلاثة المشار إليها آنفا، فاندفع إلى توسيع دائرة التجريم ضدا على مبدأ الحرية، مع جنوحه الواضح نحو التشديد في العقاب الذي يشكل حجر عثرة في طريق إعادة تأهيل الجناة، ثم التقليص من نطاق تفريد هذا العقاب كأداة للتأهيل المنشود.
ولما نجح هذا التيار الحركي في إخضاع المشرع الجنائي، انتقل إلى السرعة القصوى في الآونة الأخيرة، خصوصا مع تنامي استخدام وسائل التواصل الإجتماعي، وخاض في استهداف السلطة القضائية بالضغط عليها عن طريق ما يجترحه، بين الفينة والأخرى، من مُحاكمات شعبوية منفلتة عن كل القيود الأخلاقية والقانونية والدينية، في ركوب صارخ على معاناة الضحايا من أجل تحقيق غاياته السياسية أو الاقتصادية، بعيدا عن واجب الموازنة بين حقوق هؤلاء الضحايا وحقوق المعتدين عليهم، مما أفضى، في العمق، إلى نسف كل مبادئ المحاكمة العادلة المترسخة في الوجدان الحقوقي الكوني، حتى صرنا أمام ما نسميه بـ “الشعبوية الجنائية القضائية”.
ومهما يكن من الغايات التي يعتقدها أنصار هذا التيار، فإن ساحة القضاء وطبيعة مهامه تتجافى وفكرة “الشعبوية الجنائية” لما تشكله من خطر كبير على استقلالية السلطة القضائية التي ما فتئ، في مناسبات عديدة، يرفع شعارها خلافا لما يُــبْطِنُــه من شعورٍ في مواجهتها؛ ذلك أن هذه الاستقلالية هي الضمانة الوحيدة لحماية حقوق وحريات الأفراد والجماعات، وكل تسْـطيح للقضايا القانونية المعقدة المعروضة على القضاء، ومُصاحبتها بـ “هيجان” عاطفي ضاغط منفلت مما هو عقلاني موضوعي، بناء على “نزوات” ظرفية “انفعالية” غير ثابتة، هو تقويضٌ لها لا مُجبِرَ له، وإذا قُوِّضت استقلالية القضاء انهدم على إثرها، بالتَّـبَع، صرح الحقوق والحريات.
ولعمري، هذا هو الخطرُ الداهم الذي يهدد المجتمع إذا ما لم يتم كبحُ جماح هذه “الحركــة الشَّـعبَويَّة” في مجال القضاء الجنائي من لدُن النخب العاقلة الغيورة على تماسك المُجتمع واستقراره.
ــــــــــــــــــــــــــــ
رئيس “نادي قضاة المغرب”

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

3 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
فريد
المعلق(ة)
16 أبريل 2023 06:50

حديث الكاتب على استقلالية السلطة القضائية في المغرب هو ضحك على الدقون، إذا كانت جميع السلط في يد الملك فعن أي إستقلالية نتحدث؟ ثم حديثه عن “النخب العاقلة الغيورة على تماسك المُجتمع واستقراره” فهو يريد قمع كل من رفع صوته ضد الفساد الذي ينخر المجتمع أمام الصمت الرهيب للسلطة القضائية والتي من واجبها السهر على تطبيق قوانين البلاد وإحترامها دون إنتظار التعليمات. في قضية طفلة تيفلت ليست هناك شعبوية ولا هم يحزنون، كان هناك حكم إبتدائي “خارج القانون” يستحيل أن يتقبله أي منطق، لم يكن إغتصابا لراشدة أو حتى لمراهقة، كان جريمة إغتصاب بيدوفيلي جماعي. أما القول بخضوع المشرع الجنائي في بعض الأحيان للمطالب الشعبوية فهو إفتراء فلو كان كذلك لما جمذ المشرع قانون الإغتناء غير المشروع، ربما قبل إتهام الآخرين كان يجب التمعن في الكوارث التي تسببت فيها السلطة القضائية: بلد عاجز على السير إلى الأمام لأن سلطته القضائية تتعايش مع فساد المسؤولين عن تدبير شؤونه.

العوني
المعلق(ة)
16 أبريل 2023 00:25

أكبر خطر داهم يهدد البلاد والعباد هو هذا الفساد المستشري في البلد والذي لم يترك قطاعا من القطاعات أو مجالا من المجالات؛ وكان حريا بالقضاء أن يتصدى له بقوة القانون لكن مع الأسف نجد أن القضاء لم يسلم أيضا من هذه الآفة.

ali
المعلق(ة)
15 أبريل 2023 22:32

السؤال الذي ينبغي طرحه سيدي الكاتب، بكل جرأة من خارج الجسم القضائي المعروفة حالته لدى القاصي والداني هو هل العقلانية تقتضي كبح الحركة الشعبية التي تعكس قيم المجتمع الحقيقية ، وآماله وتطلعاته القانونية والاجتماعية أم أن العقلانية تقتضي كبح جماح الحركة الفوقية” القوى السلطوية” التي طالما أخضعت القضاء لمآربها تحت اسم حماية الأمن القومي وسيادة الدولة وهيبتها في اعتداء فج و مكشوف على حقوق الافراد والجماعات . ننتظر الجواب

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

3
0
أضف تعليقكx
()
x