“عايشين من الزبالة”..آلاف المغاربة يقتاتون من القمامة
عن “هاف بوست عربي”
“20 سنة وأنا أبحث يومياً أزْيد من 10 ساعات بين حاويات القمامة، هي مورد رزقي الذي أعيش منه وأعيل به عائلتي..”.
بملابس رثَّة وقطعة قماش تُخفي وجهه الذي لا يظهر منه سوى العينين وجزءٍ من لحيته غير المرتَّبة، نطق مصطفى بهذه العبارة دون أن ينظر إلينا، كان منهمكاً في البحث داخل حاوية للقمامة أو ما يسميه المغاربة “البركاصة”، بأحد شوارع مدينة سلا المجاورة للعاصمة المغربية الرباط، يلمُّ منها كل ما يمكن إعادة تدويره أو بيعه قبل أن تصل إلى “زبالة عكراش” (مطرح النفايات الرئيسي في المدينة).
حينما كان في الـ12 من عمره، دفعه والداه لتعلُّم مهنة “الحدادة”، لم تعجبه فاختار “حرفة” فرز الأزبال، كل يوم يبحث عن مورد رزقه في مخلفات غيره من المغاربة.
أزبال قوم عند آخرين قوتُ يوم
اعتاد مصطفى، في الساعات الأولى من صباح كل يوم منذ 20 سنة، أن يمر من نفس الشوارع وأزقة مدينة سلا، برفقة عربة يجرُّها حماره، الذي يصفه مصطفى بكونه رفيق دربه وونيسه الوحيد في رحلته اليومية المتكررة.
غير آبهٍ بالروائح الكريهة ولا الأمراض التي قد تسببها ولا بخطورة بعض الأزبال الصناعية والطبية، فهي مورد رزقه الذي مكَّنه من مساعدة والديه الموجودَين في البادية، فمصطفى لا يجد عيباً في أن يكون مصدر رزقه من حاويات القمامة أو أزبال المغاربة، فهي تقيه شر مد يده للغير، وتمكّنه من مساعدة والديه مادياً، “أقوم بإرسال جزء من المال بشكل دوري لوالديَّ اللذين أزورهما كل 3 أشهر..”، يقول مصطفى لـ”هاف بوست عربي”، يومياً ما بين 100 درهم (11 دولاراً) و 150 درهماً (16 دولاراً) تتراوح مداخيله من عمله في “الميخالة” أو فرز الأزبال كما يُصطلح عليها محلياً، وهي مداخيل بالنسبة له كفيلة بسد حاجاته كاملة.
وتختلف موارد كل “عامل في القمامة” حسب قدرته الجسدية والأحياء التي يقصدونها، “هناك من استطاع بفضل هذه المهنة أن يتزوج ويكوِّن أسرة ويوفر ما يلزمه لإعالة أسرته”، يضيف مصطفى بلهجة فيها الكثير من الأمل.
7 آلاف مغربي يقتاتون من القمامة
مصطفى “الميخالي” هو واحد من 7123 مغربياً، أحصتهم كتابة الدولة المكلفة التنمية المستدامة، في تقرير حديث أصدرته بداية السنة الحالية، وأكدت أن 40% منهم تقلُّ أعمارهم عن 20 سنة، و14% نساء، وأشار التقرير إلى أنه من بين 5 أطنان من النفايات التي ينتجها المغاربة، هناك نحو 1.5 مليون طن من النفايات الصناعية تشكل خطراً على العاملين في فرز الأزبال.
بالنسبة لمصطفى، فإن كل شيء يهون في سبيل لقمة عيش حلال، فهو لا يفكر فيما قد يتعرض له من أخطار، “أتجول بين شوارع مدينة سلا مرفوقاً بعربتي ورفيق دربي (حماري) ما بين 10 إلى 12 ساعة كل يوم، وكيفما كانت أحوال الطقس فإنها لا تثنيني عن القيام بما اعتدته طيلة 20 سنة”.
“الميخالة” معرَّضون لجميع أنواع الأخطار، سواء الصحية بفعل طبيعة النفايات التي قد يجدونها في حاويات القمامة، أو بسبب الظروف المناخية، لكن بالنسبة لمصطفى فإن الخطر الأكبر هو الذي يشكله بعض البشر.. يحكي لـ”هاف بوست عربي” كيف أنه تعرض في أكثر من مرة لمحاولة اعتداء من طرف بعض اللصوص، خاصة في ساعات الصباح الأولى أو بالليل، “خلال سنوات عملي الأولى، كثيراً ما كنت أتعرض للمضايقات، والآن أتجنب كل ما من شأنه أن يثير المشاكل بالنسبة لي”.
لكن، ما يؤثر أكثر في نفسية “الميخالة” بالمغرب، هو تلك النظرة الدونية والتعامل السيئ الذي يلقونه من طرف بعض المواطنين الذين يصنفونهم في خانة الرعاع واللصوص، كما يشرح مصطفى بنبرة حزينة متسائلة.
“زبالة” بصيغة حديثة
تركنا مصطفى مع آماله وحسرته، يمتطي عربته التي يجرُّها رفيقه، وتوجهنا صوب منطقة “أم عزة” التي تبعد نحو 20 كيلومتراً عن العاصمة الرباط؛ بحثاً عن واحد من أكبر مطارح النفايات في المغرب وأقدمها، حيث تلقي يومياً عشرات الشاحنات نفايات العاصمة الرباط والمدن المجاورة لها؛ سلا وتمارة والصخيرات، هناك سنُفاجأ عند مدخل المطرح بوضع لافتة كُتب عليها “قف.. ممنوع الدخول لغير العاملين بالتعاونية”.
في الداخل، كان هناك نحو 40 شخصاً من الشباب والنساء والرجال كخلية نمل، يشتغلون في فرز القمامة التي وضعتها قبل لحظات شاحنات قادمة من العاصمة الرباط، فعكس “الميخالي” مصطفى، الذي التقيناه وحيداً رفقة حماره أو رفيق دربه كما يحلو له أن يسميه، داخل تعاونية “أم عوزة” بمنطقة عكراش القريبة من العاصمة الرباط- انتظم 147 من العمال في تعاونية متخصصة بفرز الأزبال، تأسست سنة 2010 في إطار ما يُعرف بـ”البرنامج الوطني لإعادة تثمين النفايات” من طرف 157 عاملاً سابقاً في مطرح النفايات العشوائي “عكراش”، الذي يعتبر ثاني أكبر مكبٍّ للنفايات في المغرب بعد “زبالة ميريكان” بالعاصمة الاقتصادية للمملكة، الدار البيضاء.
التعاونية التي بدأت في الاشتغال سنة 2011 بمعايير حديثة وظروف تضمن لحد كبير كرامة “الميخالة” بصيغتهم العصرية والحديثة، “كل العاملين فيها كانوا يشتغلون في المطرح العشوائي لعكراش بما فيهم أنا الرئيس”، يقول لــ”هاف بوست عربي” ياسين مازوت، رئيس التعاونية التي تعتبر أول تعاونية أو صيغة جديدة لتنظيم عمال المزابل في المغرب، بعد أن كانوا يشتغلون في ظروف صعبة.
الدولة المغربية ألزمت شركات التدبير المفوض للأزبال وفق دفتر تحمُّلات، بإدماج “الميخالة” أو عمال المزابل للاستفادة من المطرح المراقب الذي أنشأته، وهو ما جعل العمال من الشباب والنساء يتكتلون في إطار تعاونية ضمت 157 منخرطاً “هم عمال وفي الوقت نفسه أرباب عمل، لهم حقهم من الأرباح السنوية، وأنا واحد منهم”، يقول رئيس التعاونية ياسين مازت، الذي يؤكد أن ظروف الجميع تحسنت إلى الأفضل، ولم يعد أحد يجد حرجاً في الإعلان عن اشتغاله داخل تعاونية فرز القمامة، “فهي تضمن له راتباً شهرياً قارّاً في حدود 2750 درهماً (نحو 280 دولاراً)، إضافة إلى الضمان الاجتماعي والتغطية الصحية، وأيضاً أرباح سنوية يوزَّع جزء منها بالتساوي على الجميع، ويُستثمر الباقي”، كل ذلك بفضل الأزبال التي ينتجها المغاربة.
بالنسبة لعمال وأعضاء تعاونية “أم عزة” بعكراش، فإن نظرة المجتمع لهم تحسنت بعد أن تغيرت بشكل كبير وضعية عمال مطارح النفايات، وانعدمت مخاطر الشاحنات والنفايات الطبية والتفاوت بين الناس واستغلال الوسطاء لضعف الميخالة، فإن الكل بات ينظر بشكل مغاير إلى مهنة فرز الأزبال، والعاملون أصبحوا فخورين بمهنتهم التي ضمنت لهم مدخولاً قارّاً وفي ظروف مهنية جيدة، كما يقول رئيس التعاونية، الذي اشتغل بدوره سنوات في مطرح النفايات بـ”عكراش”، “كنت أتمنى الموت لغيري حتى أتمكن من أن أجمع أكبر قدر من النفايات الصالحة للبيع، لكن الآن الوضع تغير والأمور أصبحت عادلة”.
ولم يُخفِ ياسين مازوت استياءه من استمرار استغلال بعض من سماهم “أباطرة النفايات” للعمال الممتهنين لفرز النفايات، في انتظار أن تعمم فكرة التعاونيات على جميع مطارح النفايات المنتشرة في ربوع المملكة حتى يعم خيرها على جميع “الميخالة”، بما فيهم مصطفى.