لماذا وإلى أين ؟

”شري ليها شي وريدة”.. أطفال يتسولون باسم الحب (ملف)

”شريها ليها شي وريدة”.. لا يمكن أن تتجول في شواطئ الكثير من المدن الساحلية المغربية، خصوصا إذا كنت رفقة فتاة، كيف ما كان وضعها (قريبتك، اختك، صديقتك…)، دون أن تتردد إلى مسامعك هذه العبارة.

فبمُجرد أن يسمع ”العاشق المفترض” هذه الكلمات الرنانة حتى يقع في إحراج  وتردد، قبل أن يستسلم لمصيره المحتوم ويسقط في فخ الشراء، لأن ”البائع” يلعب ببساطة على رمزية الوردة في مخيال ”المعشوقة المفترضة” التي أمامه.

لكن، وراء هذه العبارة التي تبدو بسيطة، حكايات وقصص تُخفي غابة من الأسرار، يمتزج فيها التسول والتجارة باسم الحب، مع استغلال بشع لبراعم مكانهم الطبيعي مقاعد الدراسة، وليس الجري واللهث وراء عشاق ومن هم ليسوا كذلك، بحثا عن دريهمات.

تتكرر هذه الحكاية، مئات المرات ربما في اليوم الواحد كلما طل الصيف على الأبواب، وتعرف خفوتا بمجرد انتهاء العطل وتراجع عدد المرتادين للشواطيء والأماكن السياحية.

آية (اسم مستعار)، 8 سنوات، تقول إنها تدرس في السنة الثانية ابتدائي، تحكي تجربتها ”الطويلة” في بيع الورود على ضفاف أبي رقراق بـ ”مارينا” في العاصمة الرباط، وأيضا غير بعيد عن نفس المكان، وتحديدا بشاطئ ذات المدينة في جزئه المتاخم لقصبة الوداية التاريخية.

الطفلة ذات الشعر الأشقر والعينين الخضراوين،  تتأبط الورود المعروضة للبيع وعلب ”كلينيكس”، مرتدية تنورة قصيرة وحذاء رياضيا  وقميصا أصفر عليه علامات إحدى الماركات العالمية الشهيرة، وفوق رأسها ”بوندو” تجمع بها شعرها، دون أن تضع شيئا فوق رأسها يقيها من الحرارة المفرطة التي تتجول فيها لساعات ذهابا ومجيئا بحثا عن عشاق.

”إلا قاريا ف الصباح تنبيع  فالعشية وإلا كنت قارية العشية تنجي لهنا فالصباح…”، هكذا كان جوابها عندما سُئلت عن كيفية التوفيق بين ”عملها” كبائعة الورود أو ربما التسول باسمه وبين دراستها؛ قبل أن تضيف أن لها أخا يبلغ من العمر  15 سنة يفعل نفس الأمر والفرق ”أنني بارعة في بيع الورود بينما هو يتقن بيع كلينيكس!”.

توضح ذات الفتاة التي تبدو محترفة في الكلام،  لكونها، على ما يبدو، معتادة على تكرار نفس الحكاية لكل من يسألها من ”الزبناء”، بأنها تعيش مع جدتها المريضة والتي تسميها ”مي”، بينما أبويها يعيشان رفقة أخيها في ”الواد” بمدينة سلا. ولم تنف حين سؤالها عما إذا كان والديها على علم بقصة بيعها للورود، للأمر، بل أكدت أنها تفعل ذلك بإيعاز منهم، وأن ما تجنيه وراء ذلك يذهب إلى جيب ”مي” التي تقطن معها.

تقول وهي واثقة من نفسها، أن معظم الورد الذي تشتريه من دكان في أحد أحياء المجاورة المعروفة في الرباط، تعيد بيعه في ”لمحة البصر”، إذ نادرا ما ”يعتذر كوبل ما بأدب” من شراء باقة ورود منها، بل أكثر من ذلك، تضيف، أن هناك من هؤلاء من نفس الجنس ذكورا أو إناثا، من يشتري الورد لبعضهما البعض، قبل أن تستدرك بعد أن فطنت إلى ”غرابة” ما قالته، أنه قد يكون أخاه أو قريب لها، وقد تكون أختها أو قريبة لها، فـ ”ما العيب في ذلك”، توضح.

أحد ”الفضوليين” الجالسين في مكان معشوشب تحت ظل شجرة، قبالة محطة السفن التي تقل في اتجاه ”مارينا” سلا، أكد بعد أن رحلت الفتاة إلى حال  سبيلها، أنها ”تكذب” بخصوص مورد الورد، وأن كل ما في القصة أن ”شبكة” تتكلف بالعملية من ألفها إلى يائها، وأن هؤلاء – والعهدة عليه- يجمعون بقايا الورد والأزهار غير الصالحة التي يرمي بها تجار مارشي النوار الشهير بساحة مولاي الحسن (ساحة بيتري سابقا) وسط العاصمة، ثم يعيدون ”ترميمها” وتوزيعها على هؤلاء الأطفال وحتى بعض البالغين لإعادة بيعها في أماكن متفرقة من المدينة.

غير بعيد في المكان نفسه، توجد فتاة يظهر أنها تخطت السنوات العشر الأولى من عمرها بقليل، تتربص هي الأخرى بالمارة، وتستهدف بشكل خاص ”ليكوبل”، ثم تعود سواء حققت هدفها أم لم تحققها لتجلس بالقرب من سيدة يبدو أنها تجمعها علاقة قرابة لتشابه كبير في ملامحهما بسمرته، فوق كرسي إسمنتي مخصص لمرتادي المكان.. تفعل ذلك عدة مرات، بينما نسبة فرص نجاحها في إقناع ”الشاري” أقل، بسبب شخصيتها الخجولة حيث لا تردد سوى عبارة ”شري ليها وريدة” دون إلحاح، كما لو أنها غير مقتنعة بما ”أنيط” لها من مهام.. بعدها تغادر المكان رفقة شاب أكبر منها بقليل يبدو هو الآخر فرد من عائلتها كان جالسا فوق الكرسي إلى جانب السيدة، لينصرفا، والوقت بعد الزوال، إلى وجهة ما، بعد أن قطعا الطريقين الساحليين ويصعدا وكأنهما متوجهين إلى صومعة حسان، بينما ظلت السيدة الأخرى في مكانها.

حقوقيون: مسؤولية مُشتركة ومطالب بتفعيل القوانين

واقعتين، من بين عشرات وربما مئات الحالات المشابهة موجودة في كل مدينة وفي كل شاطئ، حتى صار ”التطبيع” مع هذه الظاهرة، أمرا معتادا بين المغاربة وغيرهم ممن يرتادون هذه الأماكن.

بالنسبة لأمينة خالد، الكاتبة العامة لجمعية ”إنصاف” للتنمية الاجتماعية والتربوية، فإن المسؤولية مشتركة ما بين الدولة والأسرة وأيضا الجمعيات المختصة في الطفولة، مطالبة بتظافر الجهود بين الجميع من أجل وضع حد للظاهرة.

أمينة خالد الكاتبة العامة لجمعية ”إنصاف”

 

وأوضحت المتحدثة أن هناك أسرا تترك أطفالها في الشارع من ”الصباح تال الليل”، فهل يُعقل أن يُترَكوا كذلك وهم عرضة للمخاطر؟. كما أن مسؤولية الدولة ثابتة، وفق المتحدثة، في عدم قيام مؤسساتها في البحث والتقصي حول هذه المظاهر، من هم هؤلاء الأطفال ومن أين اتوا  ولماذا هم في الشارع ”ها اللي كيسعا ها اللي شاد المسكا وها اللي شاد  كلينيكس ها اللي هاز الورد…”.

وأبرزت أن مسؤولية الدولة قائمة أيضا، حتى ولو تم الدفع بهم من قبل أقاربهم المفروض عليهم حمايتهم، لكون التسول جنحة يُعاقب عليها القانون.

وعزت ذات الفاعلة الحقوقية، في حديث لـ ”آشكاين”، انتشار الظاهرة إلى عدم وجود أماكن للترفيه لاحتضان هؤلاء الأطفال، إذ يتطلب الأمر توفير أماكن ترفيهية إسوة بأقسام الدراسة، قصد الحماية.

عبد العالي الرامي رئيس جمعية منتدى الطفولة

 

من جهته يقول عبد العالي الرامي رئيس جمعية منتدى الطفولة، في حديثه لجريدة ”أشكاين” حول الظاهرة، إنه ضد ”أي استغلال كيف ما كان للقاصرين”.

وطالب ذات الفاعل الجمعوي، بضرورة ”تفعيل القوانين الجاري بها العمل لحمايتهم (أي هؤلاء القُصَر) من أي استغلال”، داعيا إلى توفير ”الظروف الإيجابية من تعليم جيد وفضاءات ثقافية واجتماعية للطفولة”.

كما نادى الرامي بـ ”عدالة مجالية على الصعيد الوطني وتنمية المناطق الهشة وتوفير ظروف العيش الكريم لهم ولأسرهم”، في مساع لوضع حد للظاهرة.

خبير تربوي: ظواهر ”مشينة” وجب محاربتها

عبد اللطيف اليوسفي، الخبير التربوي، وعضو سابق للمجلس الأعلى للتربية والتكوين، قال إن الظاهرة تبدو ”مشينة”، وتلزم الإشارة إلى أن ”جميع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الطفل تمنع تشغيل الأطفال واستغلالهم”.

وأوضح مدير أكاديمية الغرب السابق، ضمن حديث لـ ”آشكاين”، أن ”هذا الاستغلال مرفوض ولو من أقرب الناس إلى هؤلاء الأطفال”، مؤكدا أن جميع المواثيق التربوية، وليس الحقوقية فقط، أي جميع نصوص مجال التربية  والمواثيق العالمية، كلها بدون استثناء تعتبر أن المكان الطبيعي للطفل هو القسم ومقعد الدراسة وعلى قدم المساواة بين الأطفال تلميذات وتلاميذ وأطفال من كل الشرائح الاجتماعية.

 

عبد اللطيف اليوسفي خبير تربوي

 

وشدد ذات الخبير على أن هذه الأنواع من مظاهر تشغيل الأطفال واستغلالهم بسكل مباشر أو غير مباشر  ”محرم تربويا في كل النصوص”.

وأضاف اليوسفي: ”إذا رجعنا إلى النصوص المغربية نجد الدستور المغربي يعتبر الحق في التعليم حقا أساسيا وحقا أصيلا، ويعتبر سمو المواثيق الدولية على القوانين الوطنية في هذا المجال”.

وأبرز أن منع مثل هذه ”الممارسات التجارية المشينة واضح وضوح الشمس ولا ينبغي التساهل معه بالاطلاق…”، مضيفا: ”سيقول قائل أن إدماج هذه الفتيات أو الأطفال في سوق الشغل، لا يمنع حقهم من الدراسة… نقول لهؤلاء إن هذا الرأي فاسد، لأنه يسوغ المحظور ويساهم في تشتيت أذهان التلاميذ والأطفال ويسهل هذا النوع من الممارسات المشينة ويحرف طريق الأطفال عن الدراسة إلى اهتمامات أخرى”.

وأكد أنه من ”أوجب الواجبات أن تكون المدرسة أولا، وجميع المؤسسات التعليمية من أكاديميات ونيابات وغيرها، حريصة على حماية هؤلاء الأطفال من هذا النوع من الممارسات، وأن الجمعية التربوية الموجودة على امتداد الوطن وجب عليها أن تعتبرها نوعا من الظواهر المشينة التي ينبغي محاربتها بكل الوسائل بما في ذلك توعية الأباء”، مشددا على أن ”المنطق التربوي يرفض رفضا باتا ومطلقا مثل هذه الممارسات وإجراما، في تقديري، في حق الأطفال مهما كانت المبررات ومهما كانت الجهة التي تقوم وتساعد وتساهم في مثل هذه الأمور”.

الباحث السوسيولوجي بوقشوش”: من مشكلة نسبية إلى ظاهرة واسعة جداً تحمل مخاطر 

أكد هشام بوقشوش، الأستاذ والباحث في علم الاجتماع، أن ظاهرة بيع الأطفال لباقات الورد على الساحل بالعديد من المدن المغربية، عرفت تناميا ملحوظا، إذ تختلف في حجمها وأسبابها وآثارها، حيث يتوقف انتشارها على مجموعة من العوامل المتشابكة والمعقدة والمرتبطة أساسا بالتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، إذ أنها تحولت  فبالرغم من وجود العديد من الاتفاقيات الدولية والتشريعات القانونية الرامية للحد من انتشار هذه الظاهرة والدفاع عن حقوق الطفل، إلا أن الواقع الفعلي يثبت العكس، في ظل صعوبة احتواء هذه الظاهرة التي واكبت وبشكل سريع التحولات المجتمعية.

لقد حاول مانيير Manier، وفق ذات الباحث السوسيولوجي، حصر مفهوم عمل الأطفال وفقا لما تنص عليھ التشريعات و القـوانين الدوليـة ، كمـا حـاول التفريق بينه وبين مصـطلحات أخـرى كالاسـتغلال والا سـتعباد.إذ لم تعد مثل هاته الأنشطة تدرج ضمن عمالة الأطفال القارة أو الموسمية،بل هي عمالة متحولة، وليست دوما بدوافع اجتماعية واقتصادية في اقتران بالحاجة والبؤس الأسري.

إن القراءة السوسيولوجية لهذا النوع من امتهان الأطفال لهذا الشكل الزئبقي من العمالة المتخفية يستوجب، وفق الدكتور هشام بوقشوش، إدراكا نوعيا لبعض من شروط إنتاجها و إعادة إنتاجها، كأحد الصور اليومية التي تهدم شيئا من صرح حقوق الطفل، ومؤشر على الأعطاب الاجتماعية في التنشئة الاجتماعية،إنه في أحد القراءات الممكنة يحيل على قيم التطلع السريع من خلال أسلوب التنشئة الاجتماعية والقيمية تراهن بوعي حينا وبدون وعي حينا آخر للاستشراف المبكر للطفولة للثروة في حدودها المادية،وبأقصر الطرق الممكنة، والتي تستعجل القطاف للثروة، غير راغبة البثة في سلوك درب البناء القائم على التعلم، والتي تعد برأيها شاقا ومكلفا، وليس بمضمون النهايات.

الباحث في علم الاجتماع هشام بوقشوش

 

وأوضح بوقشوش أنها قيم المجتمع الاستهلاكي الذي يسرق من الطفولة مرحلتها ليقحمها في عوالم الكبار بالبحث عن المكانة الاجتماعية عبر المراكمة المالية،لذا سنحت العديد من الذكاءات لدى الأطفال في أن تلبس أشكالا وصورا عديدة من العباءات التي ترنو إلى الاغتناء والبحث عن الذات من خلال الرغبة الجامحة للمال،إنها تمثلات للقيم التي أسست لها الرأسمالية المتوحشة، لتصبح أسلوب تفكير وحياة متغلغل في المنظومة التربوية والسلوك الاجتماعي والتربية الوالدية، قد يفسر هذا النوع من الامتهان المرحلي والظرفي.

قد لا نختلف في كون الظاهرة تعمق من الإساءة النفسية للأطفال، يضيف ذات الباحث، لكنها تطرح أكثر من سؤال بخصوص التنشئة الاجتماعية لهم، وما يتعلق بها من اعطاب تربوية ونفسية اجتماعية، وما يكون للتربية الوالدية من دور في ذلك. إنها تسائل بشكل خاص القيم المنقولة عبر الصورة الاعلامية، والنماذج المستضبعة مجتمعيأ، والثقافة المجتماعية العاملة على تصوير المرء الفقير بالمنبوذ،والتربية الوالدية التي تعلي من المسألة المادية والمالية في اعتلاء المكانة الاجتماعية، والانتماء الطبقي،كلها محفزات على أن تبذل الطفولة وهي غير مدركة أنها تسرق طفولتها، والتي لا يمكن أن تسترجعها.

إنها مسألة كذلك مرتبطة بمستوى تشبع الاطفال بالكفايات النفسية الاجتماعية، وامتلاكهم للقدرات الحمائية الذاتية تجاه استلاب الظواهر السلبية، وما تجره من ويلات على مساراتهم التربوية.قد تتعدد المبررات الاجتماعية للتطبيع والقبول بمثل هاته الممارسات الهجينة،لأنها تحاول أن تسوغ أشكالا وممارسات تقضي على فكرة أن المكان للطفل هو المؤسسة التربوية. وفق بوقشوش دائما.

وشدد على أن الأمر يستدعي من الفاعلين بدل مزيد من الجهد للعمل على تشكيل الوعي الجمعي القيمي للتخفيف من حدة هذه الظاهرة التي أصبحت تقف اليوم أمام إحصائيات مخيفة لتفشيها في المجتمع. خاصة وأن عمل الأطفال يعد انتهاكا صارخا وواضحا لأبسط الحقوق الانسانية للطفل في التعلم واللعب وفي الحياة الصحية والاجتماعية المستقرة والكريمة، ويدفع ببراءة الطفولة للاستغلال والبؤس والشقاء، كما يلحق بالطفل أضرارا صحية ونفسية واجتماعية.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x