لماذا وإلى أين ؟

“علي باي” الجاسوس الإسباني الذي خَدع سُلطان المغرب و تسلَّل إلى مكة

“بورتري”،..  سلسلة تطل عليكم من نافذتها صحيفة “آشكاين” كل أسبوع، و تشارككم “بروفايلات” شخصيات طبعت تاريخ المملكة بإنجازاتها وإرثها الثقافي والاجتماعي كل من مجالها، تأخذكم السلسلة في جولة عبر تاريخ المغرب لنتعرف و إياكم على الشخصيات البارزة التي ساهمت في صناعة التاريخ الوطني وساهمت في تطوير إرث المجتمع المغربي.

تسلل إلى المجتمع المغربي سنة 1803 وربط صداقة مع السلطان المغربي آنذاك مولاي سليمان على أساس أنه أمير سوري يُدعى “علي باي”، وهو سليل من العباسيين وتعلم في أوروبا.. فرانسيسكو دومينغو باديا الجاسوس الإسباني الذي تسلل إلى مكة ودخل الكعبة.

في شهر ذي القعدة من سنة 1221 هجرية الموافق ليناير 1807 ميلادية، دخل حاج إلى مكة المكرمة، وهي مكان ممنوع على غير المسلمين وقد يقتلون آنذاك إن تسللوا إليها. الحاج هو “علي باي”، سليل الخلفاء العباسيين القدماء، أو هكذا كان يُعتقد. لكن في الواقع، هذا المسافر لا يُدعى علي باي، ولم يكن عباسيًا ولا حتى مسلمًا. المسيحي الذي تجول في أقدس أماكن  الإسلام هو جاسوس إسباني اسمه فرانسيسكو دومينغو باديا.

عميل مزدوج في المغرب

ولد دومينغو فرانسيسكو باديا إي ليبليش، في برشلونة عام 1767. والده بيدرو كان موظفا حكوميا، يعمل كمحاسب حرب في ملقة. من سن 16 التحق بالجيش ثم نجح بعد ذلك بثلاث سنوات، بفضل مرسوم ملكي بتاريخ 28 ديسمبر 1786 بتعيين والده في منصب آخر، في المغادرة نحو مدريد. وبعد سبع سنوات، في عام 1793، تم تعيين الشاب دومينغو، الذي كان يبلغ من العمر 26 عامًا فقط، في منصب آخر كمدير إيجار التبغ الملكي في قرطبة.

لكنه كان قبل كل شيء عبقريًا حقيقيًا، أتقن العديد من المهارات، من الرياضيات إلى اللغات الأجنبية، بما في ذلك التاريخ، وعلم الفلك. وكان مفتونًا بالآثار الأندلسية العظيمة، ليبدأ في دراسة اللغة العربية. غادر إلى مدريد عام 1799 ، حيث عمل كأمين مكتبة لأمير كاستل فرانكو. كان الراتب ضئيلًا ، لكنه كان قادرًا على قراءة العديد من الأعمال العلمية، خاصة عن المجتمعات الأفريقية والمسلمة التي كان منبهرا بها.

ودفعه هذا الانبهار باستكشاف الأراضي البعيدة إلى طلب تمويل من الحكومة الإسبانية لرحلة استكشافية علمية إلى شمال إفريقيا. وقرر رئيس الوزراء الإسباني مانويل جودوي استخدام المشروع للاقتراب من سلطان المغرب مولاي سليمان، وإقناعه بقبول حماية إسبانيا من أعدائه الكثيرين. وإذا فشل ذلك، طُلب من باديا تشجيع الثورات في المغرب من أجل تبرير الغزو الإسباني.

وفي عام 1803، بدأ باديا رحلته وانتقل إلى المغرب على أنه أمير سوري يُدعى “علي باي” ، وهو سليل من العباسيين وتعلم في أوروبا. وسرعان ما تمكن من تكوين صداقة مع السلطان المغربي بفضل سعة اطلاعه وهداياه السخية.

باديا في ثيابه العسكرية

علي باي صديق السلطان

في 29 يونيو 1803 وصل إلى ميناء طنجة، حيث كتب في مذكراته المنشورة معلقا عن وصوله إلى المدينة ورحلته إليها :

“الإحساس الذي يشعر به الرجل الذي يقوم بهذه الرحلة القصيرة لأول مرة لا يمكن مقارنته إلا بتأثير الحلم، يمر في مثل هذه الفترة الزمنية الصغيرة، إلى عالم جديد تماما، والذي لا يشبه إلى حد كبير ذلك الذي أتى منه، يجد نفسه حقًا كما لو تم نقله إلى كوكب آخر”.

يحكي باديا في كتابه، أنه قدم جواز سفر قادس، وأطلق أكاذيبه الأولى ليستفيد خلال الأيام الأولى من منزل أتاحه له قائد طنجة، ويرافقه تركي يعمل كذراعه اليمنى ومرشده. قال في كتابه: “لم يتركني أبدًا للحظة ليلاً و نهارًا، أزعجني بلا حدود ولم يسمح لي بالقيام بأي عمل”. ليعقد عزمه على التخلص على الفور من دليله.

في الأيام التي أعقبت وصوله، ذهب علي باي إلى عدة أماكن في طنجة وسلم العديد من الهدايا إلى القادة والشخصيات المختلفة في المدينة ولم يتوان عن عرض معدات علم الفلك التي أحضرها معه. كما اغتنم زيارة السلطان مولاي سليمان لطنجة لمقابلة “إمبراطور المغرب”. حيث بعد تقديم علي باي إلى السلطان الشريف، قدم له سلسلة كاملة من الهدايا.

في المغرب. إلى جانب شخصيته كعلي باي، لم ينس دومينغو باديا مهامه الرئيسية في إرسال رسائل إلى السلطات الإسبانية لإبلاغها بالبنى التحتية والبيانات العسكرية الحساسة للمملكة الشريفية. كما كان عليه أن يقنع السلطان أن يطلب حماية إسبانيا في بيئة كانت فيها المملكة محاطة بالقوى الاستعمارية. علاوة على ذلك، فإن قربه من السلطان مكنه من تقديم المشورة لمضيفه، لكن دون جدوى. ليضطر دومينغو باديا إلى الانتقال إلى الخطة الثانية بتحريض السكان على الثورة ضد السيادة الشريفية، وهي المهمة التي ستفشل أيضًا.

جاسوس مرة وخائن إلى الأبد

في 25 مارس 1804، بينما كان مولاي سليمان في مراكش وكان يستعد للذهاب إلى موغادور (الصويرة)، وضع علي باي خطة لتحريض السكان على الانتفاضة، ووجه رسالة إلى رئيس الوزراء الإسباني من أجل الاستعداد لتدخل عسكري. لكن هذه الخطوة ستحيي الشكوك ضد شخصه ونواياه الحقيقية، وإدراكا منه لإمكانية انكشاف هويته للسلطان وعامة الناس قريبا، أرسل رسالة ثانية إلى مانويل جودوي يبلغه فيها بالتهديدات ويحثه على تأجيل التدخل إلى فبراير 1805 ، عندما كان على وشك الانكشاف، خاطب السلطان ليطلب منه الذهاب إلى مكة. ثم طلب منه السلطان تأجيل هذه الرحلة وعهد إليه بقيادة لواء لغزو مليلية.

هنا اختلفت الروايات، بين من يؤكد أن دومينغو باديا قد كشفه مولاي سليمان أخيرًا، ومن يؤكد العكس. لكن المؤكد هو أنه سيغادر المغرب بين أكتوبر وديسمبر 1805 متوجها إلى طرابلس. وستأخذه هذه الرحلة الجديدة أيضًا إلى اليونان والإسكندرية والقاهرة وحتى مكة. وسيستمر الناس في معاملته كأمير عربي و مسلم حقيقي بينما يواصل عمله كجاسوس إسباني.

تمثال بطنجة

وحتى وقت قريب، في منطقة بني مكادة بطنجة، كان يوجد تمثال علي باي، الذي ربما نحت له عندما كان يعيش في طنجة، يقف شامخا في المنطقة التي لازالت تسمى على اسمه بين سكان المدينة، والذي اختفى قبل سنوات في ظروف غامضة. في مايو 2016 ، كانت المعارضة بالمجلس البلدي قد حثت عمدة المدينة على الكشف عن مصير التمثال، الذي يعتبر جزءًا من تراث مدينة البوغاز.

تمثال “علي باي” بطنجة

 الطريق إلى مكة

غادر باديا المغرب في أكتوبر 1805، وبعد زيارة طرابلس و قبرص ومصر، قرر أداء فريضة الحج في مكة، التي كانت آنذاك تحت سلطة الخلفاء العثمانيين. في 13 يناير 1807، غادر إلى المدينة المقدسة، حيث وصل بعد يومين. وبمجرد وصوله إلى هناك، تصرف باديا كمؤمن ومسلم حقيقي. في منتصف الليل، وعلى الرغم من صحته غير المستقرة، أصر على ممارسة شعائر الحج على الفور، والتي تتمثل في التجول في حرم الكعبة سبع مرات. وفي اليوم التالي فتح أقدس مكان في الإسلام أبوابه له ليستكشفه الجاسوس من الداخل. وبعد ظهر اليوم نفسه، يلتقي بشريف مكة، غالب أفندي، الذي يسأله عن أصوله وتجواله في الغرب. حيث أن إجادته للغة العربية ساعدته على إخفاء هويته.

المنفى في فرنسا

بعد أن زار الأرض المقدسة وسوريا وتركيا وعبر كل أوروبا، وصل باديا إلى بايون في 9 مايو 1808. كان تشارلز الرابع وابنه فرديناند السابع قد تنازلوا للتو عن عرش إسبانيا لصالح نابليون، الذي بدوره، سلمه لأخيه جوزيف بونابرت. هناك استقبل تشارلز الرابع باديا وأوصاه بخدمة النظام الجديد. ولكن عندما طرد الإسبان جوزيف بونابرت عام 1813 ، ذهب باديا، الذي كان يشغل منصب محافظ قرطبة، إلى المنفى في فرنسا. هناك نشر الطبعة الأولى من أسفاره في عام 1814، وتمت ترجمتها بسرعة إلى الإنجليزية والإيطالية والألمانية ، ولكن لم تظهر الترجمة الإسبانية حتى عام 1836.

في فرنسا، حيث اعتلى لويس الثامن عشر العرش، ابتسمت الحياة للجاسوس المسافر الإسباني الذي مُنح الجنسية الفرنسية وعين مشيرًا. هناك صنع باديا لنفسه اسمًا في الحياة الثقافية في باريس. وفي عام 1815 ، في سياق المنافسة الاستعمارية مع بريطانيا العظمى، اقترح على الحكومة الفرنسية الذهاب مرة أخرى إلى مكة، ثم عبور إفريقيا. وتم قبول المشروع ليغادر باديا في يناير 1818 تحت اسم علي أبو عثمان. في يوليو، كان في دمشق حيث أصيب بالدوسنتاريا، أو تم تسميمه حسب ما يرجح البعض، ومات في شهر غشت من العام ذاته.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

1 تعليق
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
احمد
المعلق(ة)
31 مايو 2023 14:32

ما اكتر جواسيس اسبانيا اليوم الذين يتربصون بالمغرب، وكيف يمكن معرفتهم داخل جالية اسبانية تعد بعشرة الف دخولو للاستقرار بصفة مؤقتة او دائمة في المغرب.؟

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x