لماذا وإلى أين ؟

من أوطان الموت إلى قوارب الموت

داوود فجراوي*

ما أصعبَ الكتابةَ عن” الحرقة ” وقوارب الموت يستحيل أن ترتقي اللغةُ إلى حجم الفاجعة لا يستطيع أحدٌ توفير الأزهار لنهر الجنازات المتدفّق.
تتواصل موجات الهجرة منذ سنة 2021 وبشكل متصاعد، ويمكن أن نلاحظ جملة من الخصائص الجديدة لهذه المرحلة، أولها أنه خلافا للموجات السابقة، حيث كانت الهجرة تقتصر على الشباب المهمش فقد أصبحت تضم عائلات ونساء وقصّرا بشكل غير مسبوق. وأصبح من المعتاد أن تبيع العائلات أملاكها لشراء قوارب وتنظيم رحلة عبور نهائي الى الضفة الأخرى للمتوسط. وحسب الإحصائيات التي أوردها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، شهدت السنة الماضية هجرة 500 عائلة تونسية وما يزيد على 1200 امرأة، وقد تصاعد هذا النوع من الهجرات العائلية منذ بداية سنة 2022 وبشكل غير مسبوق.

داوود فجراوي

تردّي الوضع السياسي خاصة في ظل نظام شعبوي فاشي يقوده قيس سعيد في المرحلة الحالية، وفي ظل تراجع فرص انطلاق تنمية فعلية وتعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وبالنظر إلى أزمة المواد الأساسية المدعمة، والتي أصبحت المعاناة الأولى للمواطن التونسي، فإن كل هذه الأسباب أوجدت بيئة مناسبة ومحفّزة على الهجرة أيضا

المقاربة الأمنية التي اعتمدتها السلطات التونسية في ما تسميها “مكافحة الهجرة السرية” لم تؤتِ أكلها، وذلك لأسباب موضوعية عديدة، منها طول الشريط الساحلي للبلاد الذي يمتدّ على ما يقارب 2000 كلم (إذا ما أخذنا بالاعتبار محيط الجزر)، علاوة على قلة الإمكانات اللوجستية لحرس الحدود البحري، في ظل الأزمة الخانقة للمالية العمومية.

لم تحرص الحكومات المتعاقبة على معالجة ملف الهجرة، وظل ثانوياً، وحتى التشريعات المتعلقة ظلت قديمة وغير ملائمة للمعايير الدولية. فقانون 03 فيفري (فبراير) 2004 لا يتحدّث عن الهجرة، بل عن وثائق السفر، كذلك فإنه ينص على عقوباتٍ عدّت الأشد عالمياً، من دون نسيان أن تونس لم توقّع الاتفاقية الدولية 18 ديسمبر/ كانون الأول 1990، الخاصة بحماية المهاجرين وأفراد عائلاتهم. وفقط أشار دستور 2014، قبل استبداله، في فصل يتيم، إلى اللاجئين ومنع تسليمهم، رغم أن بعض الممارسات ظلت غير ملتزمة ذلك.

وبعد زيارة رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، في 6 يونيو/ حزيران 2023، زيارة إلى تونس، تلبية لدعوة الرئيس التونسي قيس سعيّد. كانت زيارة خاطفة مهدت لها اتصالات سابقة بين مسؤولي البلدين ولقاءات مع وزير الداخلية الإيطالي ماتيو بيانتيدوسي في مارس/ آذار الماضي، كانت أهم محاورها تعزيز التعاون في عدة ملفّات ذات بعد أمني ومكافحة الهجرة غير النظامية. رحّب قيس سعيد بعاشقة افريقيا الإيطالية قائلا: “يُسعدني أن أتحدّث إليكم عن مشكلاتنا. أقولها بصوت عالٍ، إنك امرأة تقول بصوت عال ما يفكّر فيه الآخرون في صمت”. لن يجد قيس سعيد أفضل من ميلوني لتبييض استبداده السياسي والتجنّد للضغط الدولي لتسهيل شروط الاتفاق مع صندوق النقد الدولي

ورغم فشل جزء من أهداف الزيارة بين المتفاوضين بشأن مفاوضات صندوق النقد الدولي، يجد التقارب بين هذه اليمينية المتطرّفة التي تجد أصولها في موسوليني وشعبوي متطرف كان سكّينا في خصر الديمقراطية التونسية

لن نحظى، نحن مواطني هذه البلدان المنكوبة بأزماتها المستعصية وأنظمتها المستبدّة، بفرصة أمل في عودة الحياة، وحماية من بقي منها على قيد الحياة، من قوارب الموت إذا لم تتفق القوى العظمى والدول الإقليمية على حلولٍ سياسيةٍ لأزماتنا الممتدة، وسيبقى البحر الأبيض المتوسط فاغرًا فمه لابتلاع بؤساء هذه الشعوب المنكوبة.

*كاتب صحفي تونسي

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

3 2 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

1 تعليق
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
Medyas
المعلق(ة)
7 أغسطس 2023 00:07

شكرا على هذا المقال، كلام من صميم واقعنا

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x