لماذا وإلى أين ؟

النفس الإنسانية بين ظاهرتي الضعف و الطغيان

الدكتور محمد بنيعيش* 

 أولا: الطغيان كنتيجة معبرة عن الضعف   

   بجانب الصور النفسية ذات الارتباط بالعلم والجهل الإنساني وآثارها العقدية بالدرجة الأولى، يطرح القرآن الكريم صفات نفسية أخرى ذات البعد المادي والغريزي من حيث الظاهر.

من بينها نجد نموذج الضعف العام الذي يطبع بنية الإنسان نفسيا وبدنيا،وذلك في قول الله تعالى:”يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا”[1].

وعند هذا الضعف فقد تتولد لديه صورتان نفسيتان متناقضتان بحسب قربه أو بعده من صفة الجهل التي تطبعه منذ البداية أو بعد الاكتساب المعرفي وتحصيل العلم بصفة خاصة.

هاتان الصورتان تمثلان مجموعتين تنضوي تحتهما صفات فرعية قد تنتمي إلى هذه المجموعة أو تلك،كاليأس والكفران والطغيان والمكر من جهة،والحرص والاضطرار والهلع والمكايدة وما في هذا المعنى من المواقف الإنسانية ،والتي هي في الحقيقة صور موضوعية وثابتة للنفس الإنسانية، قد نجد لها أوصافا دقيقة في القرآن الكريم الذي سيجمع في بعض الأحيان بين المجموعتين في خطاب واحد بحسب ضرورة ورودها في السياق واقتضاء الحال عند البيان.

يقول الله تعالى:”وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض”[2].

“…وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور “[3]،”وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون”[4]،”وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا.قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون”[5]،”ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤس كفور، ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مست ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور،إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير”[6].

ثانيا: الطغيان وتأثيراته السلبية على السلوك الفردي والاجتماعي

وقد تعتبر ظاهرة الطغيان عند الإنسان إحدى أهم الصور النفسية الجزئية ذات الأثر السلبي في سلوكه،وهي بمثابة محاولة تعويضية عن الضعف الذي يعاني منه وعدم استفادته من عبرته،لأن الضعف في حد ذاته قد يكون عنصرا أساسيا للقوة! بل يمثل البذرة الرئيسية للحصول عليها،وهذا ما يمكن استلهامه من قول الله تعالى:”الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير”[7].

فدورة الضعف في الإنسان بتوسط القوة في مسيرة وجوده إيذان بأنه ليس له قوة ذاتية قارة،وإنما هو أصلا ضعيف ، ولئن أصبح قويا فإن مآله القطعي والنهائي سيكون هو الضعف.

ولهذا فقوته ليست ذاتية،وإنما هي موهبة من الله تعالى، والمفسرة في كلمة ذكر هي”لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم“.

فطغيان الإنسان بظاهرة القوة الوهمية سواء كانت جسدية أم مالية أم سلطوية … إنما هو عنوان على اختلال توازنه النفسي ومناقضته الصريحة لواقعه الذاتي،وأكثر ما يقع الطغيان والبغي في حالة وجود بذخ وسعة مجال الإغراء المالي “ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير. وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد”[8].

فالطغيان مترتب عن الشعور الوهمي بالاستغناء،وبالتالي سيتبعه الاستعلاء كنتيجة حتمية سيرتبها القرآن على الواقع النفسي للإنسان وسلوكه بحسبه عند إخلال شخص ما بتوازنه ، وذلك عند هذا التأكيد التقريري في قول الله تعالى:”كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى”[9].

إذ الإنسان السليم والمتزن قد يبقى دائما واقفا بين ظاهرتي الطغيان بسبب الاستغناء، والقنوط واليأس بسبب الفقر والحاجة والاضطرار … فكلا طرفي قصد الأمور ذميم ،لأن ميل النفس إلى الاستغناء وتوهمه إذا لم يوظف في صورته الصحيحة وهي الاستغناء بالغني الحق قد يجعل من الإنسان نموذجا استبداديا واحتكاريا ومستأثرا،كصفات وصور غير سليمة لواقعه النفسي.

ويتجلى هذا الامتداد في المجال المالي أكثر من غيره، بحيث قد يطبع من جهته بصور من الشح والبخل والقتر في الإنفاق، كما نجد التأكيد على هذا السلوك النفسي في قول الله تعالى:”قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا”[10].

وهذا القتر أو التقتير الذي قد يطغى على الإنسان في تعامله المالي منشؤه صورة نفسية غريزية نص عليها القرآن في قول الله تعالى:”إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد”[11].

وللحيلولة دون الوقوع في جانبي الإفراط أو التفريط يقرر القرآن ضوابط للنفس الإنسانية قد تحقق الوسط والاعتدال في السلوك النفسي للإنسان كمبدأ وغاية قبل أن يكون سلوكا عمليا ماديا وظاهريا محضا.

ويتجلى هذا البعد في قول الله تعالى:”ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا”[12].

فاللوم النفسي والتحسر الذاتي ،كل هذا مترتب عن السلوك غير السوي للإنسان ويمثل نتائج ضرورية وحتمية تخضع لها النفس بحسب التزاماتها أو عدم التزامها بأسس ضوابطها.

وهكذا لو تتبعنا تفصيل هذه الصورة النفسية التي عرضها القرآن الكريم فإنها ستؤدي بنا إلى دراسة مستفيضة ومترابطة،الواحدة تصب في الأخرى وتشعبها كتأكيد على أن بنية النفس الإنسانية تخضع لقوانين صارمة هي التي تحدد صحتها أو مرضها بحسب الوقوف عند حدودها أو اختراق سياجها.لأن الإنسان بما هو إنسان مسئول عن كلامه وعلمه وسلوكه ظاهرا وباطنا،وينبغي أن يراعي ويخضع للأمر والنهي الذي أقره الحق سبحانه وتعالى لضمان سلامة النفس وسلوكها،ومنه ما نجده في قول الله تعالى:”ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها”[13].

ولكي نبقى أكثر التزاما بعنوان البحث وبمحدودية هذا الفصل الهادف إلى الدلالة على مدى اعتماد المفكرين المسلمين على الأصول الشرعية في تأسيس مناهج معرفة النفس وضبطها،فإننا سنقتصر على ما أوردناه من الصور النفسية الجزئية باعتبار أنها تدخل في صورتين رئيسيتين للنفس الإنسانية عليهما مدار البحث النفسي في الفكر الإسلامي من الجانب الوظيفي والسلوكي خصوصا وهما:

النفس المذمومة والنفس المحمودة،بالإضافة إلى صورة ثالثة يمكن الاصطلاح عليها بالنفس الاستدراكية أو التصحيحية.وهذه الأنفس الثلاث الرئيسية قد عبر عنها القرآن الكريم بالنفس:الأمارة بالسوء والنفس المطمئنة والنفس اللوامة، وهي متداخلة فيما بينها تداخلا وظيفيا يصعب معه تخصيص كل ظاهرة منها بالدرس والتحليل على حدة،وذلك لأنها ترجع إلى بنية واحدة وهي النفس الإنسانية من حيث هي جوهر متصف بصفات وأعراض…

غير أن أهم هذه الصور النفسية وأكثرها تداخلا وذوبانا في غيرها هي ما اصطلح عليها القرآن الكريم بالنفس اللوامة، لأنها مرة تكون في دائرة النفس الأمارة بالسوء وتارة تكون في النفس المطمئنة، وفي كلا الحقلين تمثل الضمير الحي في الإنسان قد يراقب سكون السلب وسلبيته وحركة الإيجاب وأبعاده.

ولهذا فدراستها كعنصر مستقل قد يحتاج إلى تفصيل دقيق وسعة حقل للدراسة لا يحتمله حجم البحث ومقصده،لكنها ستكون حاضرة عند استعراض الصورتين الرئيسين بالسوء والنفس المطمئنة .

أستاذ الفكر والحضارة المغرب* 

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.

[1]  سورة النساء  آية 28

[2]  سورة فصلت آية 51

[3] سورة الشورى آية 48

[4]  سورة يونس آية 12

[5] سورة يونس آية 21

[6] سورة هود آية 9-11

[7]  سورة الروم آية 54

[8] سورة الشورى آية 28

[9]  سورة العلق آية 6-7

[10] سورة الإسراء آية 100

[11] سورة العاديات آية 6-8

[12] سورة الإسراء آية 29

[13]  سورة الإسراء آية 36-38

[1]  سورة النساء  آية 28

[2]  سورة فصلت آية 51

[3] سورة الشورى آية 48

[4]  سورة يونس آية 12

[5] سورة يونس آية 21

[6] سورة هود آية 9-11

[7]  سورة الروم آية 54

[8] سورة الشورى آية 28

[9]  سورة العلق آية 6-7

[10] سورة الإسراء آية 100

[11] سورة العاديات آية 6-8

[12] سورة الإسراء آية 29

[13]  سورة الإسراء آية 36-38

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

2 1 صوت
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x