2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
محمد بنيعيش*
أولا: الفكر الإسلامي وتقييد العقل بالعقل ذاته
الفكر الإسلامي ،المستند في تأسيس مناهجه المعرفية على النص الديني،قد يتطابق من حيث اعتبار وتحديد مستوى الأدوات المعرفية وتوظيفها، لكن الخلاف سوف لن يكون إلا عرضيا في أغلب الأحيان باستثناء بعض الاتجاهات المذهبية التي قد يغلب عليها إفراطا، إما توظيف العقل وقياساته بالدرجة الأولى، كمنهج استدلالي محض ، وإما الملاحظة الحسية واستقراء نتائجها كمنهج استقرائي وتجريبي خارجي، وإما توظيف القلب أو الوجدان بالدرجة الأولى للتحصيل المعرفي كمنهج ذوقي واستنباطي.
ومهما حاولنا أن نخصص التوظيف المطلق لأداة معرفية دون أخرى عند هذا المذهب أو الاتجاه الفكري أو ذاك فإننا لا نستطيع أن نفصل بينهما فصلا موضوعيا تاما، نظرا لأنها كلها قد تستند على العقيدة الإسلامية والأدوات المنصوص عليها في الكتاب والسنة .
كما أن الفكر الإسلامي في تحديد مناهجه وضبط مباحثه قد يتفق ضمنا أو صراحة على موضوع التفاوت المعرفي[1] .فهو من جهة يوظف القوى الإنسانية جملة وتفصيلا في التحصيل المعرفي، ويستعمل الأقيسة بشتى أنواعها للاستدلال،ويوظف الاستقراءات بمختلف صورها عند البحث الميداني أو النظري. وهو في هذا يتفق مع الفكر الإنساني بصفة عامة في مجال البحث ،إلا أنه حينما يتعلق الأمر بالأمور الدقيقة فقد يستعمل تلك القوى نفسها في تحديد وظيفتها، ومن هنا سيتحدد المنهج لديه . فسواء تعلق الأمر بالفقهاء أو المتكلمين أو الصوفية أو حتى الفلاسفة ، فإنهم بحكم التزامهم بالنص الديني وتأسيسهم المعرفي على قواعد عقدية يقينية وقطعية يتفقون على محدودية التصور الإنساني، إ، في وصف الجوهر الإنساني الذي هو الروح أو النفس ، كما سنرى، أو في تحديد الذات الإلهية وصفاتها.
إذ في هذا الميدان سيهرع الفكر الإسلامي إلى أسلوبين في التعامل والاستدلال ، كلاهما مستقى من النص الديني ابتداء وانتهاء.
الأسلوب الأول:وهو المتسم بالتوقف عند الظواهر الدينية وتوظيف العقل من خلال الدلالات التي تفهم منها، والاجتهاد عند ظنيتها كدلالة واحتمال تشابه في معانيها، والاستدلال عليها عقلا[2].وبهذا فيكون العقل قد أخذ معرفة صحيحة ، وحكم عليها بحسب استعداده وقوة تمييزه .
الأسلوب الثاني: وهو الذي يلتزم أيضا ظواهر النصوص الدينية عند تحديد التصور واختيار المعنى. لكنه قد يضيف زيادة على الحكم العقلي حكما عمليا متحصلا عليه بالرياضة والتأهل للتلقي المعرفي، والاستشعار الذاتي[3]، وهذا هو ما يسمى بالقلب أو البصيرة . ويعبر عن العلوم المتحصل عليها بالعلوم الذوقية أو الكشفية أو الحدسية ، أو غير ذلك من المصطلحات التي توظف في هذا المقام . بل المهم في هذا التحصيل هو أنها علوم مباشرة تتصل بالمعلوم بدون وسائط ولا سلالم قد يكون من الضروري ارتقاؤها لاقتناص الحد الأوسط كما يعبر به عند المناطقة في مناهجهم .
3) والخلاف حول هذا المنهج التحصيلي ليس سوى خلاف عرضي كما بينا،لأن بعض الفقهاء، كابن تيمية مثلا، سنجده يتفق مع الصوفية اتفاقا كاملا حول التحصيل المعرفي عن طريق غير الطريق العقلي أو الحسي المحض. وذلك لاستناده إلى نصوص شرعية دالة بوضوح على إمكانية الوصول إلى معرفة علمية دقيقة قد لا يستقل العقل بإدراكها، بل تكون فوق إحاطته . لكنه لا يمكن أن يصدر حكما عليها إلا بعد أن تكون جاهزة وقابلة للتفكيك والتحليل والقياس وما إلى ذلك ،مما هو من خصائص المنهج العقلي في البحث العلمي.
والمتكلمون أيضا بما فيهم الأشاعرة يسلكون نفس الاتجاه ، وخاصة ما نجده عند الغزالي وفخر الدين الرازي وابن طاهر البغدادي والشهرستاني ، وغيرهم مما يصعب حصرهم من حيث الاستعراض العددي في هذا المبحث .ولكن من حيث المنهج والفكر فإنهم قد يتفقون على قضايا جوهرية مع وجود خلافات بسيطة كالتي حصلت مع الباقلاني وأبي المعالي الجويني حول القواعد المعرفية المعتمدة في مناهج البحث ومبدأ “بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول” وما إلى ذلك من الخلافات العرضية حول شتى مناحي البحث في المجال العقدي، والذي قد يدخل في ساحته البحث النفسي كأبرز القواعد التي بها يتمكن الباحث من التعريج نحو المعرفة اللاهوتية ، والخوض في الاستدلال على الصفات الإلهية .
أما الفلاسفة المسلمون ، فإنهم رغم تقليدهم في كثير من المصطلحات وأساليب الاستدلال لفلاسفة اليونان وغيرهم فقد تركوا في حساباتهم المجال مفتوحا دائما للتلقي المعرفي عن طريق غير طريق الحس والعقل العاديين بل طرحوا تصورات هي من جهة المصطلح قد تبدو فلسفية محضة ، لكن من حيث الجوهر والأساس العقدي لها ارتباط ديني يعتمد على القول بالتأييد الإلهي، وبالتلقي المباشر للحقائق دون استعمال الوسائط العادية للمعرفة ومن دون الاحتكام إلى الحد الأوسط الذي لابد وأن يكون مؤسسا على كليات كاملة . وهذه الكليات الكاملة تستدعي الإحاطة العلمية والاستقراء الكلي للجزئيات ، مما سيتطلب زمنا طويلا وتفرغا شاقا، قد لا تفي الأعمار الإنسانية بالتوصل إليه[4].
ومن هنا فسيبقى التطلع الإنساني إلى معرفة الحقائق الكلية مرهونا بما يتلقاه من الإلهام الإلهي وتوفيقه ومرهونا بمستوى استعداد النفس لهذا التلقي أو الانعكاس والفيض حسب مصطلح أغلب الفلاسفة . والاستعداد معناه :صفاء وخلو عن التشويش والشوائب ، وهذا الصفاء نفسي بالدرجة الأولى.
ومن هنا فتكون مسألة المعرفة مسألة نفسية ، وأن منهجها يتأسس داخليا. و الأقيسة المستعملة في الاستدلال،وخاصة على قضايا النفس ذاتها، ما هي إلا أقيسة انعكاسية لمرآة الذات على الذات .
ومن هذه الاعتبارات النفسية في التحصيل المعرفي سيصير الفلاسفة المسلمون ذوي نزعات توفيقية بين الفلسفة والدين ، وخاصة في المجال النفسي بالدرجة الاولى، إذ الفلسفة أساسا حسب تعبير ابن حزم :”إنما معناها وثمرتها، والغرض والمقصود من تعلمها ليس هو شيء غير إصلاح النفس بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد وحسن السياسة للمنزل والرعية . وهذا نفسه لا غيره ، هو الغرض في الشريعة . هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من العلماء بالشريعة . فيقال لمن انتمى إلى الفلسفة بزعمه ، وهو ينكر الشريعة بجهله على الحقيقة بمعاني الفلسفة ، وبعده عن الوقوف على غرضها ومعناها. أليست الفلسفة بإجماع من الفلاسفة مبينة للفضائل من الرذائل ،موقفة على البراهين المفرقة بين الحق والباطل . فلابد من نعم ضرورة فيقال له: أليست الفلاسفة كلهم قد قالوا صلاح العالم بشيئين : أحدهما باطن والآخر ظاهر، فالظاهر هو استعمال النفس للشرائع الزاجرة عن تظالم الناس وعن القبائح . والظاهر هو التحصين بالأسوار واتخاذ السلاح لدفع العدو الذي يريد ظلم الناس والإفساد، ثم أضافوا إلى إصلاح النفوس بما ذكرنا، إصلاح الأجساد بالطب ، فلابد من نعم …”[5].
فالتوافق الذي قد يوجد في بعض الصور الغائية والأبعاد الإصلاحية بين الدين والفلسفة ، كما يدعيه ابن حزم ، سيعرف نزاعا من أطراف غيره ، ليس على مستوى تقارب الغاية نفسها وإنما على مستوى تحديدها الأولي ،وهو ما رأيناه سواء عند الشهرستاني في منحاه التحويري ،أو عند الغزالي في دعواه المفاضلة التي يرى فيها أن الفلاسفة هم الذين أخذوا عن الصوفية علومهم في النفس والأخلاق ، وليس العكس . والصوفية أهل دين وملتزمون بنصه ، فإذن، العلوم الفلسفية ، وخاصة في الجانب العقدي والنفسي، ليست علوما عقلية إنسانية محضة ، وإنما هي ذات مستندات دينية وتسليمات غيبية عليها تأسست مباحثها.
ثانيا: المباحث النفسية على محك المناهج الإسلامية والفلسفية
ولهذا، فمهما أتوا به من أفكار عن النفس ، فإنها ستبقى محدودة بالقياس إلى المعطى العقلي أو الحسي وحده الذي قد أوقعهم في أخطاء شائعة عن النفس وإدراكاتها، وستكون محل النقد والتجريح من طرف المتكلمين والصوفية والفقهاء. من بينها مثلا، رفض الفلاسفة أن تكون النفس مدركة للجزئيات . فنجد الرد عليهم من طرف فخر الدين الرازي، بقوله : ” القصد إلى تدبير هذا البدن من حيث إنه هذا البدن المعين مشروط بالعلم بهذا البدن . ولما كانت النفس تريد تدبير هذا البدن ، وجب أن تكون عالمة بهذا البدن من حيث إنه هذا البدن ، فتكون النفس عالمة بالجزئيات . فإن قالوا: :النفس تعلم الجزئيات لكن بواسطة الاستعانة بآلة جسمانية . فنقول : إن كلامنا الآن ليس في كيفية الآلات والأدوات ، بل في إثبات أن النفس مدركة للجزئيات ، وشاعرة بها من حيث إنها هي. فإن نازعتم فيه أوردنا عليكم الدليل المذكور، وإن سلمتموه فهو المطلوب .
والعجب من هؤلاء الفلاسفة كيف عدلوا عن أمثال هذه الدلائل الظاهرة واشتغلوا بتركيب تلك الوجوه الضعيفة ، وملأوا الكتب منها. واستمروا عليها في الأدوار المتطاولة والأعصار المتباعدة “[6].
وحول التحصيل المعرفي وتحديد مناهج البحث على أساس نفسي، نجده أيضا يناقشهم في نفس الموضوع السابق. فيقول بأن : “أهل المنطق اتفقوا على أن المحمولات والموضوعات على أربعة أقسام :
الأول : حمل الجزئي على الجزئي، كقولك : ” زيد هو الذي عمل العمل الفلاني”. فهاهنا الموضوع والمحمول جزئيان . والثاني: حمل الكلي على الكلي، كقولك : ” الإنسان حيوان”. والثالث : حمل الجزئي على الكلي، كقولك :” بعض الإنسان هو زيد”. فإن قولك ´´بعض الإنسان” مفهوم كلي. الرابع : حمل الكلي على الجزئي، كقولك : ” زيد إنسان” أو ” زيد ليس بفرس”. وأطبقوا على أن أكمل الأقسام في الحمل والوضع هو هذا القسم . وأيضا أطبقوا على أن من حمل شيئا على شيء، فإنه لا يبدو أن يكون قد حضر عنده تصور الطرفين . وإذا ثبت هذا فنقول :” الذي حكم بحمل الكلي على الجزئي، لابد وأن يكون حضر عنده تصور ذلك الجزئي وتصور ذلك الكلي. لكن صاحب التصورات الكلية هو النفس ، فيجب أن يكون صاحب هذه التصورات الجزئية أيضا هو النفس .
واعلم أنه إن حصل في الدنيا برهان قبوله والرجوع إليه ، فليس إلا هذا البرهان وما يشبهه”[7].
بهذا الجزم القوي يؤكد فخر الدين الرازي على نفسية معرفة النفس، وقبله ،وفي عصره، كان قد صرح بهذا جل المفكرين المسلمين ، بأن ” العلوم إما نظرية وإما ضرورية ….ولابد من الاعتراف بالعلوم الضرورية . و إلا لزام التسلسل والدور وهما محالان . فثبت أنه لابد من الاعتراف بالعلوم الضرورية والبديهية . وأجلى العلوم البديهية ، وأقواها وأكملها ما يحكم به صريح الفطرة وبديهة العقل . إذا عرفت هذا فنقول: كل واحد يعلم بالضرورة ، أنه هو الذي رأى المبصرات ويسمع المسموعات وذاق المطعومات ولمس الملموسات ، وأدرك المشمومات ، وتصور المتخيلات ، واستحضر المذكورات والمنسيات . وأنه هو الذي يحرك يده إلى الأخذ ويحرك رجله إلى المشي. ولو نازع منازع في كون الإنسان موصوفا بهذه الصفات ، وآتيا بهذه الأفعال لكان ذلك النزاع واقعا في أظهر العلوم الضرورية . وذلك يدل على أن صريح الفطرة شاهدة بأن الإنسان هو الموصوف بهذه الصفات ، وهو الفاعل لهذه الأفعال . ولما كان الإنسان عبارة عن النفس وجب أن تكون النفس هي الموصوفة بهذه الصفات ، وهي الآتية بهذه الأعمال”[8].
من خلال هذه التقسيمات التي ذهب إليها البحاث المسلمون ، يمكن التأكيد مبدئيا على أنه لا يوجد في الفكر الإسلامي سوى طريقتين أو منهجين في التحصيل المعرفي بصفة عامة :
منهج يعتمد على الإدراك العقلي بحسب ضروراته ومكتسباته النظرية والحسية . ومنهج يعتمد الشعور والذوق الذي يترتب عنه الكشف والشهود.
فأما الأول : فيتسم بالاتفاق الموضوعي بين العقول البشرية على العلوم العقلية والحسية. كما أنه قابل للأخذ والرد في شقه الكسبي، لأنه فكري تحويلي للصورة إلى المعنى وما إلى ذلك ،مما قد يترتب عن هذه العملية التحويلية :إما الصواب وإما الخطأ، قد ينسب البعض هذين الاحتمالين إما إلى حكم العقل أو الحس، حسب الاعتبارات المنهجية كما سنرى، ومن هنا فسيكون منشأ الخلاف المنهجي.
وأما الثاني: أي طريق الكشف والشهود المؤسس على الأذواق والشعور الوجداني، فهو لا يحتمل المجادلة والرد على قائله ، وحرمانه يعود على المنكر، وصاحب الوجود مسعود بما حصل عليه “[9] على حد تعبير ابن عربي.
ومع أنه لا يحتمل المجادلة أو الرد، إلا أنه قد يتسم بالاختلاف في الإدراكات والأذواق ، وخاصة فيما يتعلق بالعلم التجريدي وما وراء المحسوسات والمرئيات ، كما يقول أيضا:”اعلم أن العلوم الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها، مع كونها ترجع إلى عين واحدة “[10].
هذا الرأي قد يبدو معقولا وله أساس عقدي، وذلك باعتبار العلوم الذوقية ذات مصدر إلهي ،سواء سميت بالإلهام ، أو الكشف والفراسة وما إلى ذلك مما هو منصوص عليه شرعا.
ولهذا فهي ذات بعد إحاطي، والمتلقي أي المتعرف أو العارف هو شخص محدود الإدراك ، وإبحار المحدود في بحر غير المحدود، وهو معرفة الله تعالى ،سيكون بحسب سفينته وطاقتها الاستيعابية. وعلى هذا فقد تبحر سفن كثيرة في بحر واحد، ولكنها قد لا تصطاد نفس كمية ونوعية الأسماك على حد سواء. لأن البحر أوسع من أن تحيط بمكنوناته سفينة أو سفن مهما كان عددها ونوع أحجامها، ما دام البحر هو الذي يحتويها. ورغم اختلاف المحاصيل بين المبحرين وتضارب نتائجها، فهذا لا يعني أن المبحرين لم يكونوا يبحرون في بحر واحد، وإنما نال كل مبحر الذي قدره الله له .
ومن هنا فلا تناقض يمكن تسجيله حينما يتعلق الأمر بالحديث عن العلوم التي هي فوق طور العقل أو الحس . ويتضمن ما فوق طور العقل والحس ، معرفة الله ،ومعرفة النفس، التي كما سنرى هي المطية لكل المعارف .
مراجع:
[1] ابن تيمية:مجموع فتاوى التصوف 11ص47
[2] ابن تيمية :درء تعارض العقل والنقل ،تحقيق محمد رشاد سالم 1399-1979
[3] الغزالي:جواهر القرآن ص32
[4] الشعراني:اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر ج1ص44
[5] ابن حزم:الفصل في الملل والأهواء والنحل ج1 ص94
[6] فخر الدين الرازي:المطالب العالية من العلم الإلهي ج7 ص256-257
[7] نفس ج 7 ص258-259
[8] نفس ج7 ص 257
[9] ابن عربي :رسائل ابن العربي ،كتاب الفناء ص8
[10] ابن عربي :فصوص الحكم تعليق أبو العلا عفيفي ،دار الكتاب العربي بيروت ط 2 ،1400-1980 ص170
*أستاذ الفكر والعقيدة بوجدة
الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبها.