لماذا وإلى أين ؟

الانتكاسات لا تأتي فرادى

د. خالد فتحي
في أعقاب انسحاب مصر من مناورات “سلام شمال أفريقيا 3″، يبرز مشهد آخر يعمق جراح الدبلوماسية الجزائرية: استثناء الرئيس الجزائري من قائمة الرؤساء المدعوين لحضور احتفالات عيد النصر في موسكو، في مقابل دعوة الرئيس المصري ونظيره البوركيني.

قد يُعتبر هذا التجاهل عابرًا لولا تاريخ النظام الجزائري الحافل بالتغني بعمق صداقته مع روسيا، ولولا سلسلة الضربات المتلاحقة التي تتلقاها الدبلوماسية الجزائرية على الساحة الدولية، والتي تنذر بوضعها المتردي وانحدار نفوذها.
هذا التهميش الصارخ، الذي يكشف عن مدى انكشاف الجزائر دوليًا، يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن إعطاء الأولوية المطلقة لملف “البوليساريو” قد قاد البلاد إلى عزلة خانقة. فبدلًا من بناء تحالفات استراتيجية راسخة تخدم المصالح الحيوية للشعب الجزائري، تصر الدولة على حصر علاقاتها الخارجية بمعيار وحيد: الدعم غير المشروط لقضية خاسرة تستهدف تقويض وحدة التراب المغربي.

لقد بلغ السيل الزبى لدى العديد من الدول المؤثرة إزاء التوجهات غير الرشيدة للدبلوماسية الجزائرية، التي تجوب الآفاق مبددة ثروات الشعب الجزائري الشقيق، ليس سعيًا لتعزيز مكانة الجزائر في المشهد الدولي، بل بحثًا عن موطئ قدم لطرف تابع لا يلقى قبولًا، وحتى عند الجلوس معه، فإنه يتم على مضض أو نتيجة تضليل جزائري، وأحيانًا بفضل رشىً مدفوعة.

إن هذا الإعراض الروسي المفاجئ لقصر المرادية يوضح حجم التضحيات الباهظة التي تقدمها الجزائر دعمًا لهذا التنظيم الانفصالي، والتي تفاقمت حد خسارة حليف تقليدي بحجم روسيا. ويأتي هذا التطور ليضاف إلى التهميش المتزايد لدور الجزائر في أفريقيا، وحوض البحر الأبيض المتوسط، والعالم العربي.

في صميم هذا التراجع الملحوظ في العلاقات الروسية الجزائرية، يكمن مجددًا سوء تقدير استراتيجي جسيم، يكشف عن جمود في رؤية الدبلوماسية الجزائرية التي لا تزال أسيرة الماضي. فالجزائر تنظر إلى روسيا بعين الماضي، وكأنها لا تزال الاتحاد السوفيتي الحليف الأيديولوجي. لكن روسيا اليوم كيان رأسمالي براغماتي، يسعى لتوسيع نفوذه الإمبراطوري بمنطق القوة والمصالح، مدفوعًا بحنين جارف لاستعادة أمجاد روسيا القيصرية، وليس بمنطق الأيديولوجيا الشيوعية الزائلة. هذا التركيز الأحادي الجانب من الجزائر على “الصداقة التقليدية” يعكس عجزًا مذهلًا عن استيعاب التحولات العميقة التي شهدتها روسيا والعالم، ويؤكد أن الجزائر تدفع ثمن جمود فكري وسياسي يعيق قدرتها على بناء تحالفات تخدم مصالح شعبها في عالم دائم التغير.

والأدهى من ذلك، أن الجزائر لم تستفد من الدرس القاسي الذي قدمته لها روسيا نفسها عندما تلكأت، بل ورفضت دعم انضمامها إلى مجموعة البريكس. فبدلًا من الخوض في نقد ذاتي معمق ومساءلة الذات حول الأسباب التي حولت اسمها إلى مرادف للإخفاق بعد الفشل في تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، استمرت الجزائر في نهجها القائم على التمني والاعتماد على “الصداقات التقليدية” البالية. هذا العجز عن التعلم من الإخفاقات وتصحيح المسار يؤكد عمق الأزمة التي تعيشها الدبلوماسية الجزائرية، ويثير تساؤلات جدية حول قدرتها على خدمة مصالح شعبها في عالم لا يرحم المتشبثين بالأوهام. فروسيا، وهي تعيد رسم تحالفاتها تحت ضغط العقوبات الغربية وحرب أوكرانيا، لم تعد ترى في الجزائر، رغم كونها زبونًا تقليديًا لسوق السلاح الروسي، شريكًا ذا أولوية. موسكو تبحث عن حلفاء موثوقين، يتمتعون بالرشد والمرونة والبراغماتية، وهي صفات تفتقر إليها الدبلوماسية الجزائرية المتصلبة.

لقد نأت روسيا بنفسها إذن عن دولة باتت رمزًا للعبث والفشل الذريع، تعاني من عزلة واضحة: فهي في عداء دبلوماسي واقتصادي كامل مع المغرب.
وترتبط بتونس بعلاقة ذات طابع ريعي تفتقر إلى العمق الاستراتيجي.
وتشهد علاقتها بليبيا توازنًا هشًا في ظل تدخلات إقليمية متضاربة. وتعيش مع دول الساحل في جو من الحذر والنفور قلّص من نفوذها لصالح قوى أخرى مثل روسيا نفسها وتركيا والمغرب.
لقد أدركت روسيا أن الجزائر، التي طالما وصفت نفسها بـ “الوسيط المحايد” و “القوة المغاربية الأولى”، تحولت إلى لاعب هامشي يتلقى الضربات ولا يوجهها.

بناءً على ذلك، فإن فتور موسكو تجاه الجزائر سيزيد من انكماش دورها، ولن يمر دون تداعيات وخيمة، من بينها بالطبع تزايد التخلي والنبذ للأطروحة الجزائرية بشأن ملف الصحراء المغربية، خاصة مع تزايد عدد الدول الداعمة للمغرب.
يضاف إلى ذلك تراجع أكبر لمكانة الجزائر كشريك موثوق في مجال الطاقة، خاصة مع توجه أوروبا نحو بدائل أكثر استقرارًا.

ناهيك عن انحسار دورها الإقليمي، هذا إن كان لها دور متبقٍ، لصالح دول أكثر ديناميكية كمصر وتركيا والمغرب وحتى إثيوبيا.
والأدهى من كل ذلك هو الانكشاف الاقتصادي الداخلي، في ظل الاعتماد المفرط على عائدات المحروقات، وغياب استراتيجية تنويع اقتصادي جادة.

ومع ذلك، يبقى الأمل معقودًا على أن تتمكن الجزائر من تدارك أزمتها، إذا ما تخلت عن وهم إنشاء دويلة في جنوب المغرب لا وجود لها إلا في مخيلتها، وسعت في الوقت نفسه، وبالتعاون مع الدول المغاربية، إلى إعادة إحياء العمق المغاربي عبر مبادرات بناءة وغير تصادمية، تُنعش التعاون المغاربي المُهمل.
في الختام، لا تُقاس الدول بخطاباتها الرنانة أو بعنترياتها الجوفاء، بل بقدرتها الفعلية على حماية مصالحها. والجزائر، إن أرادت تصحيح مسارها وتعزيز مكانتها، يتعين عليها أن تبني سياسة خارجية ترتكز على الأولويات الوطنية، لا على التمسك بقضية لم تعد تجد لها صدى في خريطة المصالح الدولية المتغيرة.

الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

1 تعليق
Inline Feedbacks
View all comments
امحمد الفبيز
المعلق(ة)
15 مايو 2025 01:15

لقد دفع الطمع الأعمى الجزائر إلى التخلي عن الوحدة المغاربية والإفريقية، وخيانة الأخوة المغربية، لأنها كانت تعتقد أنه من السهل عليها أن تكون وريــثــا للاستمعار الإسباني في أرض المغرب، وتفتح لها واجهة جغرافي من مئات الكلومترات على ساحل المحيط الأطلسي؛ متخذة من مجموعة خونة تسمى بوليساريو، مشروع دويلة منفصلة عن المغرب، مجموعة خونة محكوم عليها ان تصبح جزء لا يتجزأ من دولة النظام العسكري الجزائري، بحكم أن جماعة البوليسارية وأتباعها توجد تحت القبضة المخابراتية والعسكرية للنظام الجزائري، ومحكوم عليها مسبقا بالتبعية والخضوع لأطماع ذلك النظام الذي توجد تحت قـــبـــضـــته ….

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x