2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

محمد كرم
الأمة المنسجمة مع ذاتها لا تكتب و لا تتحدث بلسان أمة أخرى، بل تلتزم باللغة التي اختارها الله لها في قضاء كل مآربها تقريبا.
الأمة المتشبعة بدروس التاريخ تعلم جيدا بأنه على مر العصور لم يسبق لأية أمة أن تقدمت أو تميزت في شتى فروع المعرفة باعتماد لغة أمة أخرى.
الأمة المعتزة بانتمائها الحضاري لا تلوث واجهات متاجرها و مرافقها العمومية و جدران بناياتها و فضاءاتها المفتوحة بإعلانات و ملصقات و لافتات و يافطات مكتوبة بلغة غير لغتها (مع جواز وجود استثناءات جد محدودة).
الأمة الواثقة من نفسها لا تعذر أحدا بجهله للغتها داخل حدودها الجغرافية باعتبارها أحد مقومات وجودها و ركيزة من ركائز هويتها.
الأمة الحاملة لهم تشريف تاريخها لا تتفتح على اللغات الأجنبية إلى درجة التفريط في لغتها و السقوط بالتالي في فخ الاستلاب الثقافي و اللغوي الماسخ و المعيق و القاتل و الذي لا يصب إلا في مصلحة الأمم العظمى بطريقة أو بأخرى.
الأمة الصادقة مع ذاتها لا يخجل أبناؤها من عدم التمكن من لغات الغير بل يخجلون من عدم امتلاكهم لناصية لغتهم.
الأمة الباحثة عن الاستقلال اللغوي الشامل لا تستعمل لغتها استعمالا فولكلوريا بل توظفها في كل كبيرة و صغيرة.
الأمة الساعية إلى تطوير ذاتها تشمر على ساعد الجد و لا تسمح للغتها بالتراجع إلى حد العجز عن مواكبة الركب و الاضطرار بالتالي إلى استيراد قواميس و مراجع لغة أخرى.
الأمة المجتهدة العاملة الكادحة و المؤمنة بقدرات أبنائها لا تنتظر من لغتها أن تتطور من تلقاء ذاتها بل تعمل على الارتقاء بها على الدوام و بلا هوادة و ترصد لها ما يلزم من إمكانيات مادية و تقنية و بشرية لتجويدها و تعميم استعمالها في كل مناحي الحياة.
الأمة التي تصبو إلى الظهور بمظهر الأمة المتحضرة لا تكرس التربية على المواطنة بحمل النشء الصاعد على الاعتزاز بلغة الأجنبي و الانتقاص في المقابل من لغة البلاد حد التقزز منها.
الأمة الممجدة لمسارها الحضاري هي التي تفرض على الأجانب المقيمين على أرضها تعلم لغتها و ليس العكس.
الأمة الملتزمة بمنطق الأشياء لا تجعل من اكتساب لغة الأجنبي شرطا من شروط الارتقاء الاجتماعي.
الأمة الفطنة لا تدرج حصص تدريس اللغات الأجنبية إلا في المرحلة اللاحقة لسلك التعليم الابتدائي، أي بعد التأكد من أن المواطن الصغير قد وضع على سكة حضارته الموروثة و بشكل سليم.
الأمة الصارمة تتوفر على شرطة لغوية تكون مهمتها التحقق من احترام الجميع للغتها، و وجود هذه المؤسسة الدستورية في العديد من الكيانات السياسية لا يعتبر بدعة أو ترفا. الناس ليسوا أحرارا في تجاهل لغة البلاد.
الأمة الواعية تثمن جيدا دور الترجمة إلى لغتها و تقدر دور المترجمين في إثراء الرصيد الأدبي و العلمي الوطني و في إقامة جسور التواصل مع الغير مهما كان حجم التكلفة.
الأمة المزهوة بنفسها لا تسمح لمسؤوليها و سياسييها و مثقفيها و مفكريها و فنانيها بمخاطبة مواطنيهم باعتماد لغة أجنبية. حتى في المحافل الدولية ـ الرسمية منها و شبه الرسمية ـ لا ينتظر من هؤلاء استعمال لغة غير لغتهم إلا في مقامات جد محدودة أو في غياب خدمة الترجمة (مدارس تكوين التراجمة لا توجد عبثا و لا ترصد لها ميزانيات معتبرة من باب تبييض الأموال !!!!).
الأمة الأبية لا تهيئ الظروف لأي كان من الأهالي أو الأجانب للدوس على لغتها و احتقارها في عقر دارها.
الأمة السوية لا تدرسك بلغة و توظفك بلغة أخرى. من المفروض أن تكون لغة الدراسة هي نفسها لغة العمل.
الأمة المتطلعة إلى الحفاظ على هويتها لا تهمل لغتها مهما تعقد نحوها و استعصى نطقها و تشابك معجمها و التوت تراكيبها و تفردت أبجديتها.
الأمة النبيهة لا تجعل من لغتها لغة ثانوية أو احتياطية و لا تتخذ من أية لغة أجنبية قاطرة لمنظومتها التربوية و ذلك من التعليم الأولي حتى الدكتوراه..
الأمة الراشدة تعي جيدا أن التألق و الازدهار لا يمران بالضرورة عبر الانغماس الكلي في لغة أو لغات الغير.
الأمة الساعية إلى الانفتاح على العالم لا تجد مانعا في فتح باب تعلم اللغات الأجنبية أمام أبنائها حتى لا تتهم بالانعزال و حتى تتاح لها فرصة خدمة مشاريعها التنموية المتنوعة بفعالية أكبر و خاصة عندما تكون سائرة في طريق النمو و في حاجة إلى امتلاك التكنولوجيا الحديثة … لكنها لا تكف أبدا عن تذكير ناشئتها و كوادرها بأن الغاية هي الاستئناس بهذه اللغات فقط و بأن اللغة الوطنية تظل هي قطب الرحى.
الأمة التي تهمها استدامة إشعاعها الحضاري تتفنن في ابتكار التظاهرات الثقافية على طول السنة احتفالا بموروثها و لغتها.
الأمة الموحدة المحصنة هي التي تجعل لغتها سيدة على أرضها و ليس لها أي استعداد لمناقشة مشروعية هذه السيادة.
الأمة الراغبة في تكريس مناعة أبنائها الهوياتية لا تعمل على تحقيق أمنها الاقتصادي و الغذائي و العسكري فقط بل تسعى أيضا إلى تحقيق أمنها اللغوي لما ينطوي عليه ذلك من فوائد جمة على أكثر من صعيد.
الأمة الراغبة في ترك بصمات على هذه البسيطة تعلم جيدا أن البنيان الطيني أو الإسمنتي قد يصبح موضوع هدم و قد ينهار من تلقاء ذاته في أي وقت لكن اللغة و التراث المدون بها يعيشان مدة أطول.
الأمة المحترمة لخصوصياتها الثقافية و المدركة لأهمية الهوية في هندسة المنظومة التعليمية لا توفر لأبنائها حرية الاختيار بين التعلم باللغة الوطنية و التعلم بلغة أجنبية و بين بكالوريا وطنية و بكالوريا أجنبية.
الأمة المتصالحة مع تاريخها لا تسمح بتلويث لغتها فوق درجة معينة و لا تشجع أفرادها على الخلط بين لغتين أو أكثر أو على الانتقال بشكل عشوائي من لغة إلى أخرى.
الأمة الفخورة بمقوماتها الحضارية الموروثة لا يهمها إن كانت باقي الأمم تحب لغتها و تقبل على تعلمها أم لا.
الأمة المقتنعة بأن سيادة اللغة من سيادة الوطن لا تعتبر مسألة اللغة مسألة ثانوية و من “الطبيعي” بالتالي أن تأتي في أسفل قائمة الاهتمامات.
الأمة المتفانية في البناء اللامادي ـ الذي لا يقل أهمية عن البناء المادي ـ ما عليها إلا أن تنظر إلى ما تفعله الأمم الأخرى بلغاتها فتحذو حذوها على سبيل التقليد الإيجابي مع عدم التردد في طلب النهل من تجاربها و خبراتها إذا دعت الضرورة إلى ذلك.
الأمة التي تريد الخير لنفسها و لباقي الأمم التي تتقاسم معها نفس اللغة لا يتردد خبراؤها اللغويون في إقامة تعاون حقيقي و مثمر مع نظرائهم المنتمين إلى هذه الأمم و ذلك من أجل تبادل الخبرات و تنسيق الجهود حتى يكون الاجتهاد موحدا و خاصة على مستوى التوليد اللغوي و توحيد المصطلحات المستجدة.
الأمة التي تحسب لها الأمم الأخرى ألف حساب تعلم علم اليقين بأن درجة الاهتمام بلغتها من محددات مستوى هيبتها و سمعتها.
الأمة الغيورة على أصالتها لا تبقى مكتوفة الأيدي و هي ترى لغتها في مهب الريح بحضور محتشم و غير إلزامي.
الأمة الناضجة ليست في حاجة إلى تفريخ جمعيات للدفاع عن لغتها الرسمية مادامت هذه المهمة تندرج تلقائيا ضمن صلاحيات كل المؤسسات الدستورية بدون استثناء.
الأمة المنخرطة فعليا في تكريس التنوع الثقافي العالمي مطالبة فقط بالاشتغال على حصتها من هذا التنوع.
الأمة التي تلح على إيلاء لغتها الوطنية ما تستحقه من عناية لا تكتفي بالتنصيص على رسميتها بل و تعمل أيضا على صياغة قانون تنظيمي قابل للتفعيل و يحكم استخدامها بأقصى ما يمكن من الدقة.
الأمة اليقظة لا يهدأ لها بال حتى ترى لغتها معززة مكرمة بين باقي لغات العالم.
الأمة المتناغمة مع ذاتها و الوفية لمبادئ دستورها لا تناقض على أرضها بين ما ينص عليه دستورها في باب اللغة الرسمية و ما ينطق به واقعها.
الأمة المتحلية بروح المسؤولية لا يتوقف اجتهادها اللغوي عند وضع حروف لغتها على لوحات ترقيم سياراتها و على شواهد قبور موتاها.
الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاجبها.