2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

منير لكماني
ليست العلّة في حفلة صاخبة، ولا في مهرجان أضواؤه تلمع أكثر مما تُضيء، بل في اقتناعٍ تسلّل إلى الأذهان على حين غفلة، فصار الضجيج يُعَدّ إنجازًا، والحشود دليلَ قيمة، والفنّ لا يحتاج إلى ذوقٍ ما دام التصفيق حاضرًا.
ثمّة خللٌ ما أصاب بوصلة الذوق، فانقلب الصخب إلى فضيلة، واعتُبرت الجرأة مرادفًا للإبداع، حتى غابت المسافة بين الشجاعة والانحدار. الكلمات تُقال دون محتوى، والإيقاعات تُكرَّر حتى الملل، والرؤوس تهتزّ لا طربًا، بل انسياقًا. يُروَّج لهذا العبث كأنه وثبة في سماء الحداثة، بينما لا هو تقدُّم، ولا هو فنّ.
وليس كل ما يعلو يُقاس، ولا كل ما يُكرَّر يُصدّق. ما يُقدَّم في كثير من المشاهد لا يرقى إلى الترفيه، ولا يمتّ إلى الثقافة بصلة؛ إنما هو فراغ لامع، مغلّف بالمؤثرات، تُسدل عليه الستائر كأنّه منجز.
تحت كل تلك الأضواء الزائفة، يتوارى سؤال جوهري: من يُربّي الذوق؟ من يحرس المعنى؟ من يضع الحدود بين الحرية والابتذال؟ فالمهرجان، الذي يُراد له أن يكون احتفالاً بالفن، يتحوّل في لحظة إلى مرآة دقيقة لمجتمع يتمايل، لا طربًا، بل حيرةً.
نعم، الجمهور كثير. لكن الكثرة ليست مقياسًا للجودة، ولا الزحام قرينة على القيمة. الساحات امتلأت، لا بالعقول، بل بالرغبة في الفرار: فرار من التردّي، من التكرار، من سؤال “إلى أين؟”. وكأن التجمهر ذاته صار حجة، وكأن التصفيق يُغني عن المضمون.
نحن في زمنٍ ضاعت فيه المعايير. الذوق منهك، القيم تتراجع في صمت، والمعنى يُستبدل بالإيقاع. زمنٌ صار فيه الاحتفال فعلاً ميكانيكيًا، لا ينتظر مناسبة، بل مكبّرات تكفي لإسكات الأسئلة.
ليست المشكلة في الفرح، ولا في الفن، بل في “الفرح الصناعي” الذي يُسقِط المعنى من عليائه ليضع مكانه بهرجًا لا يُغني، ووهجًا لا يُنير. إنّه زمن الهزل حين يتحوّل إلى منظومة، وزمن الفراغ حين يُقدَّم على أنه “نجاح ساحق”، والخطر كلّ الخطر أن يعتاد الناس النشاز، حتى لا يعودوا يَسمعون سواه.
في مساءٍ من أمسيات الصيف، كانت المدينة تضجّ بالجموع. أضواءٌ تصرخ، مكبّراتٌ تُزمجر، ووجوه تتمايل كأنها في احتفالٍ بانتصارٍ لم يقع، أو عزاءٍ لشيءٍ لم يُدرك أنه مات. انتهى العرض، وبدأت الحكاية.
فالموسيقى لم تعد تُسمع، بل تُقذف قذفًا. الفنّ لم يعُد يُذوق، بل يُقدَّم كوجبةٍ سريعة، لا أحد يسأل عن مكوناتها، ما دامت تُشبع الحاجة إلى نسيان الواقع، وتملأ الفراغ بما يكفي من الحركة.
في هذا المشهد، لم يعُد يُسأل الناس: “ماذا سمعتم؟”، بل: “كم قفزتم؟ كم صرختُم؟ هل التقطت الكاميرا لحظتكم؟”. النجاح صار يُقاس بعدد الأيدي المرفوعة لا بعدد العقول المنشغلة.
الخلط بات سائدًا: الجرأة تُسوَّق على أنها تحرّر، والتفاهة تُقدَّم كأنها بساطة، والصخب يُعلَن إبداعًا لأنه “حرّك الجمهور”. أما الذوق؟ فهو في مؤخرة الصف، لا يُستشار ولا يُراد له أن يستفيق. أُغرِقَ في صخبٍ لا يُبقي ولا يذر، وصار الضجيج موضة، والسطحية قاعدة، والابتذال طبيعة المرحلة.
ووسط كل ذلك، يُعاد تشكيل الوعي العام. تُعاد برمجة الأذواق لتقبل أي شيء، ما دام ملفوفًا في لافتة “فن” أو “انفتاح”. لم يعُد أحد يسأل: هل ما نراه يرقى لأن يكون فنًا؟ هل ما نسمعه يبني ذوقًا؟ هل ما نحتفل به يستحقّ الاحتفال؟
النبرة العالية أصبحت ستارًا يُخفي فراغ المعنى، والكثرة لم تعُد ضمانة، بل مجرّد تبرير. نعم، قد يحضر الآلاف، لكن ماذا يبقى بعد أن تنطفئ الأنوار؟ لا شيء سوى صدى في الفراغ.
لسنا ضد الفن، ولا ضد البهجة، ولكننا في غاية الضيق من فرحٍ زائف، يُراد له أن يكون غطاءً على التراجع، وسلاحًا ضد كل من يجرؤ على السؤال.
فالمجتمعات لا تنهض حين تهتزّ، بل حين تصغي.
ولا تنضج حين تحتفل، بل حين تعقل ما تحتفل به.
ولعلّ الصمت – أحيانًا – أنبل من الضجيج.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها
إذا خلت الدنيا من الحكماء فلا مناص من سمع الهذيان, لماذا يغيب الفن الملتزم ويحارب
لن ازيد عما جاء في التعاليق من ناحية المقال و محتواه لكن وجب التنبيه ان من وجهة نظري العفن يحظى بالدعم الرسمي و الاحتضان و الدعاية من نفس المنابر التي توجه سهامها الى كل ما يخرج عن ما خلقت من أجله….
على كل اسرة ان تتحمل مسؤوليتها في توعية أبنائها و تنبيههم الى الغرض من موجة التهافت على التفاهات و انه هناك كثيرين لم يحضروا الى حفلات البهرجة…و ان كثيرين لا يروقهم ما يتم الترويج له انه واقعنا!!
وصف ادبي يقف على دقاىق النمودج الغنائي الجديد، لكن لا يفسر اسباب هذا التعلق بنمودج يخرج عن المألوف، فلكل مرحلة دوقها ولكل جيل ولعه الفني، لكن ربما في هذا اللون تعبير عن حالة عميقة من التيه تجد تفسيرا لها في المجتمع وتناقضاته كما كانت مع انتشار ظاهرة الهيبي وموسيقى الروك في السبعينات، التي كانت تعبر عن رفض واقع الستتاتيكو المرتبط بمظاهر البدخ التي رافقت مجتمع الاستهلاك، وقد يكون في هذا اللون الجديد ما يشير الى مرحلة ضياع ورفض للواقع لن يجد له جواب إلا في تحاليل سوسيولوجية هادئة.
هل هناك استيعاب وفهم الكلمات وسط ضجيج الحاضرين ان هناك انجرار وتصفيق نتيجة الحركات البعيدة عن القيم والفن !
كلمة جميلة تعبر عن واقعنا المرير وعن مستقبلنا الفني والثقافي المهزوز.
والله تحليل جيد جدا واسلوب راءع وافكار مستنيرة متفق مليون بالمائة