2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
د. تدمري عبد الوهاب
من خلال متابعتي لتطورات ملف الصحراء المغربية وما حمله القرار الأممي 27/97 الذي صوتت عليه أغلب الدول في دورة مجلس الأمن ليوم 31 أكتوبر 2025 من قرارات تؤكد على ضرورة اعتماد مقترح الحكم الذاتي الذي كان المغرب قد قدمه سنة 2007 كحل معقول قابل للتطبيق من اجل حل نزاع تجاوز عمره نصف قرن من الزمن .رغم ما عبر عنه نفس القرار من افكار اخرى كحق تقرير المصير و انفتاحه على مقترحات اخرى وكذا التأكيد على أن المقترح سيتم اعتماده وفق مقتضيات القانون الدولي وبتوافق بين مختلف الأطراف المعنية المغرب والبوليساريو والجزائر و موريتانيا.هذا اضافة الى تمديد بعثة المينورسو لسنة إضافية أخرى . من خلال كل هذا إذن يمكن القول ان المغرب قد كسب نقاطا مهمة في أفق الطي النهائي لهذا الملف الذي استنزف الكثير من المجهودات والإمكانيات .ولا بد من الاشارة هنا ان الاخطاء التي راكمتها الدبلوماسية الجزائرية في الآونة الأخيرة تجاه حلفائها التقليديين التي سبق أن ذكرتها في مقال سابق، في مقابل دبلوماسية نشطة للمغرب عملت على تصحيح بعض الأخطاء خاصة في علاقة هذا الأخير بدول مثل روسيا والصين .كل هذا ساهم في تمرير نص القرار السالف ذكره .
لكن ما لا يمكن استساغته هو كيف تفاعلت القوى السياسية المغربية وبعض النخب الفكرية والثقافية مع هذا الإنجاز الدبلوماسي الذي يحتاج الى الكثير من العمل الهادئ والرزين حتى لا يتحول إلى فخ في استراتيجية تدبير هذا الملف. علما أننا لا نتحدث هنا على عامة الشعب .إذ لم تخرج مواقف و تصريحات و بيانات هذه القوى على التطبيل والتبجيل لما أنجز في مجلس الأمن . وهو موقف شاركته كل الأحزاب الحكومية والغير الحكومية. بل حتى القوى المحسوبة على المعارضة اليسارية والإسلامية دأبت بدورها على نفس النهج في بياناتها مع عملها على ربط نجاح هذا الإنجاز على الأرض بعملية تعزيز المسار الديمقراطي ومحاربة الفساد. وكأن الحكم الذاتي الذي ترعاه الأمم المتحدة هو فقط مسألة أخلاقية وترابية تستكين لمنطق التدرج المزمن للعملية الديمقراطية في المغرب التي تعيش على حالة الانتقال منذ ما يقارب الخمسة عقود من الزمن. كل هذا دون ان يثير لدى هؤلاء الفاعلين السياسيين والمثقفين قلق السؤال حول ما يمكن أن يحدثه هذا القرار عمليا من رجة في البنية السياسية للدولة والحكم والمجتمع. بل إن الأحزاب المغربية في مجملها لم تتطرق حتى إلى ما ورد في نص المبادرة المغربية المتعلقة بالحكم الذاتي وكأنها في ذلك توقع شيكا على بياض للدولة في تدبيرها لملف الصحراء . علما كذلك ان تداعيات الحكم الذاتي وفق الآليات الاممية ستفيض لا محالة على الواقع السياسي المغربي. وسيكون لها أثر عميق على شكل الدولة وشكل السلطة , وإن لم ننتبه سيطال اثرها كذلك وحدتنا الوطنية والترابية.
أننا بالوقوف على هذه المواقف المحسوبة على هذه القوى المنجرة تلقائيا نحو الجاهز الذي تنتجه السلطة السياسية سواء كان عبارة عن خطابات أو مواقف او إنجازات في ملفات سيادية كملف الصحراء.، او حتى اخفاقات في بعض الحالات وذلك بعيدا عن أضواء الحكومة و البرلمان والأحزاب التي مع الأسف كل ما تستطيع فعله هو الانجرار الطوعي نحو إعادة إنتاج نفس ثقافة السلطة التي من خلالها تم التحكم ولا يزال في المجتمع والعملية السياسية برمتها .
إننا نحذر من تسييد هذه الثقافة التي يمكن أن نجد لها ما مبررا في مجال الأنثروبولوجيا وفي ثقافتنا الروحية والصوفية .حيث المربى او المريد يسعى الى ارضاء شيخه المربي او المراد من اجل التقرب الى الله . لكن ان تسود هذه الثقافة في مجال الفعل السياسي الذي يعمل على تدبير قضايا الشأن العام و يجعل المصلحة العامة فوق الاعتبارات الذاتية والمصالح الشخصية حسب تعبير جون لوك .فهذا يدفعنا للقول بموت السياسي والعالم في بلادنا. بل و تحولهما حسب ماكس فيبر الى موظفين لدى السلطة همهم ضمان العيش وخدمة مصالحهم الشخصية واعادة إنتاج نفس ثقافة السلطة.
ربما يتساءل القارئ عن مدى ضرورة هذا المدخل للتطرق الى مبادرة الحكم الذاتي .وهو تساؤل مشروع إن اكتفينا بالقول انه انتصار مغربي .وأننا قد وصلنا إلى نهاية الطريق في حل نزاع طال أمده .وكل ما تبقى تفاصيل بسيطة.
لكن ان نظرنا بعين الفاحص الناقد الذي يستشرف أسئلة المستقبل فإن مقترح الحكم الذاتي تحت الرعاية الأممية وبالمعايير الدولية يجرنا للقول إن القادم سيكون له تداعيات عميقة في هيكلية الدولة وشكل نظام الحكم والممارسة السياسية وتداعيات اخرى مجتمعية وثقافية لا يمكن معالجتها ، كما يفترض البعض، انطلاقا فقط من الصيغة التي تم التطرق إليها في نص المقترح المغربي المتمثل في الفقرة التالية ” يندرج مقترح الحكم الذاتي في إطار مشروع مجتمعي ديمقراطي حداثي يرتكز على مقومات دولة القانون والحريات واحترام الحقوق الفردية والجماعية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية …ويعد يمستقبل أفضل لسكان الصحراء .” وذلك لسببين أساسيين:
-السبب الأول : أن الكلام على المشروع الحداثي الديمقراطي لم يعد جاذبا لأحد بعد ان تم استهلاكه لعقود تمتد إلى سنة 1976. ولم نلمس نتائجه على أرض الواقع بعد .بل لا زال المغرب يتعثر في عملية الانتقال إلى الديمقراطية و دولة الحق والقانون .وذلك رغم بعض التقدم الحاصل على مستوى التشريعات القانونية والدستورية.بل أن المغرب لا زال يحتل الرتب المتأخرة عالميا في الكثير من المؤشرات الدالة على انتقال فعلي الى الممارسة السياسية الديمقراطية القائمة على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة والشفافية واحترام الحقوق والحريات ومحاربة الريع والفساد والرشوة . بالتالي فإن ربط مبادرة الحكم الذاتي بالمشروع الديمقراطي الحداثي كما جاء في نص المقترح لن يقنع المغاربة سواء في الصحراء او في عموم المغرب بعد كل هذا الإحباط الذي أصاب الجميع. وبعد ان تبخرت كل الوعود التي قطعتها الدولة والحكومات المتعاقبة في هذا الاتجاه.ان لم يكن فعلا مقرونا بإرادة سياسية تؤسس لمفهوم جديد للدولة والسلطة والوحدة الوطنية والمسألة الديموقراطية التي تربط المسؤولية بالمحاسبة.
-السبب الثاني هو أن التجربة السياسية لساكنة الصحراء التي خاضوها خلال المرحلة التي مارس المغرب سيادته عليها كأمر واقع ، لا أظنها تتمتع بقوة جذب لغالبية الساكنة لاعتبارات مرتبطة بالخلل الذي تعيشه التجربة الديمقراطية في المغرب بصفة عامة .اضافة الى استمرار المغرب في الاعتماد على شبكة أعيان تقليدية في المنطقة لاتعكس التحول الاجتماعي الذي تشهده الساكنة المحلية التي انتقلت من مجتمع رعوي قبلي غالبيته رحل او أشباه رحل. إلى مجتمع مستقر في حواضر ومدن كبرى نسبيا مثل العيون والداخلة والسمارة الخ…مع كل ما أحدثه هذا الوضع الجديد من تحول في البنيات الثقافية والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي لم تعد تعير اهتماما كبيرا للتراتبيات القبلية القديمة . ولا للزعامات القائمة على منطق الشيوخ والأعيان التي بنيت على نمط الإنتاج الرعوي.
-السبب الثالث : إن افترضنا جدلا أن الصيغة الواردة في نص مقترح الحكم الذاتي الذي تم ربطه بالمشروع الحداثي الديمقراطي تحيل على إرادة جدية للانطلاق في تجربة سياسية ديمقراطية جديدة تقطع مع التجارب السابقة التي أثبتت للجميع فشلها . فإن هذا المشروع و بالطريقة التي يتم التحضير له من خلال النقاش الذي جمع مسؤولين عن الأحزاب السياسية ووزير الخارجية وشخصيات تمثل الدولة العميقة .وهي كلها أحزاب لم تبدي يوما رأيها حول مقترح الحكم الذاتي حين طلب منها ذلك سنة 2003 . كما انها مسؤولة عن جزء كبير من فساد العملية السياسية والاقتصادية و إجهاض المسار الديمقراطي في المغرب .كل هذا يحيلنا على أن المشروع الديمقراطي الحداثي الذي يتم الحديث عنه لا يعدو أن يكون خطابا يعيد تدوير الزوايا للحفاظ على نفس الثقافة السياسية الحالية.
كما ان اختزال هذا المشروع في النقاش السياسي الدائر حاليا مع قوى سياسية لم يكن لديها رأي في الجهوية المتقدمة و ما بالك بالحكم الذاتي . حول التعديلات الدستورية اعمالا للمادة الواردة في نص الوثيقة التي سبق للمغرب أن قدمها سنة 2007 التي تنص على ” إدراج الحكم الذاتي في الدستور المغربي “. يأشر بما لا يدع مجال للشك أن القوى السياسية والاقتصادية المهيمنة مركزيا. ومن أجل الحفاظ على مصالحها وامتيازاتها التي يؤمنها لها شكل الدولة والسلطة الحالية القائمة على مفهوم الدولة المركزية اليعقوبية .ستعمل جاهدة على تكريس هذا المفهوم في اي تعديل دستوري . مع الابقاء على الحكم الذاتي لجهة الصحراء كحالة استثنائية بذريعة مجبر اخوك لا بطل .أو بصيغة اخرى مجبرين لا مخيرين. علما ان هذا التفكير يحمل في طياته الكثير من الإكراهات التي قد تصادف المغرب مستقبلا سواء؛ بالعلاقة مع الحكم الذاتي كحالة دستورية خاصة للأقاليم الصحراوية التي ستعطي الانطباع للصحراويين أنهم متميزين على باقي المغاربة مما سيقوي الإحساس بالاختلاف لديهم عن الجميع. و يدفعهم بالمقابل في المدى المنظور إلى المطالبة بالانفصال. خاصة وأن الحكم الذاتي وفق القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة يترك الباب مفتوحا لحق تقرير المصير .أضف الى ذلك أن دول اخرى عالمية ستكون راعية له ولها الكثير من الأطماع في ثروات الصحراء ولن يهمها أن يكون المحاور المغرب او جهة اخرى تتمتع بكل الصلاحيات . كما أن الكثير من موارد الجهة هي الآن في قبضة لوبيات مالية واقتصادية مركزية غير مستعدة للتخلي عنها .مما سيدفع هذه اللوبيات الى التدخل في اي استحقاق من اجل التحكم في المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة محليا بالوسائل المعهودة لدى جميع المغاربة من أجل الحفاظ على امتيازاتها. وهو ما سيجعلها في موقع التعارض مع مصالح قوى اقليمية ودولية اضافة الى مصالح فئة واسعة من الصحراويين الذين يرون في الحكم الذاتي إمكانية للسيطرة على مواردهم المحلية وتوظيفها من أجل نماء وتقدم منطقتهم. علما كذلك أن هذه الإرادة في التحكم هي من سيخلق العراقيل حول من سيكون له الحق في الانتخاب من عدمه .وهو ما سيعيد المنطقة إلى المربع الأول حول إشكالات تحديد الهوية التي كانت سببا في عرقلة آلية الاستفتاء .مما سيدفعنا للانتظار عشرين سنة أخرى .
علما كذلك أن جعل الحكم الذاتي حالة استثنائية في الدستور المغربي سيثير حساسية جهات ترابية أخرى عبرت غير ما مرة عن حقها في التسيير الذاتي، كجهة الريف الكبير أو الشمال مثلا وجهات اجرى .وهو ما يدفعنا للقول أن هذا الحق يجب يكون مبدأ دستوريا يحق لكل جهة التمتع به حين ترى نفسها مؤهلة له ، وذلك وفق مفهوم جديد لتدبير التراب . مع التنصيص على واجب الدولة المركزية على المساهمة في تأهيل باقي الجهات من أجل ممارسة هذا الحق. خاصة وأن نص المقترح المغربي يتحدث على التجارب الدستورية لدول الجوار و يخص بالذكر ضمنيا اسبانيا التي تقر في المادة الثانية من دستورها بحق الجهات والأقاليم والقوميات في الحكم الذاتي في إطار التضامن ووحدة الأمة والوطن .
هذا دون إغفال ما ما يترتب على هذا المقترح ان تم تطبيقه من تداعيات على المشهد الحزبي المركزي المغربي الذي احتكر الحق في العمل السياسي الوطني لعقود من الزمن . والذي سيجد نفسه أمام واقع جديد يشرعن دستوريا لقيام أحزاب جهوية في الصحراء وهو ما لن تستسيغه كذلك النخب السياسية الجهوية في باقي جهات الوطن. أن الإقرار دستوريا بحصرية الحكم الذاتي والأحزاب السياسية الجهوية في الأقاليم الصحراوية سيخلق حالة تمييزية بين المغاربة تكرس واقعا شاذا سمته مواطنين من درجة أولى و مواطنين من درجة ثانية مع كل التداعيات المستقبلية.
د.تدمري عبد الوهاب
طنجة في 15 نونبر 2025
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها.