لماذا وإلى أين ؟

من يحق له تفكيك ظاهرة التطرف؟

معاركنا النّظرية ضدّ التّطرف لا زالت تشكّل في حدّ ذاتها ظاهرة، بل ظاهرة تنطوي على ملامح ومقوّمات التّطرف ذاته.
وكأنّنا كنّا في حالة سبات عارم استيقظنا منه واختلطت الأوراق وبات أشباح التطرف أنفسهم يتمثّلون دور الواعظ ومنظر الاعتدال. أقلام السّوق جاهزة ونموذج عطّار الأفكار ينبتون كالفطر في مزابل الميديو- غالطة(سنخصص لهذا المفهوم الجديد مقالة). خطورة ظاهرة المتطرّف الذي تحوّل إلى منخرط في تقارير عن التّطرف يضجّ بها المشهد. سبق في كتابنا سرّاق الله (الذي لا أدري لماذا لا زال ينتظر حقّه في طبعة حقيقية مثل سائر ما يخطّ في فوضى ما يكتب هذه الأيام عن الأصوليات) أن أشرت إلى ظاهرة الهيمنة على مراكز الأبحاث المعنية بإصدار تقارير عن الجماعات الإسلامية من قبل الجماعات الإسلامية نفسها، ثم يتم اعتماد المعطيات إيّاها من قبل تقارير دولية ثم تعود الجماعة نفسها إلى اعتماد المعطيات نفسها بالإحالة إلى التقارير الدولية.

خداع تعلّموه من خبراء البروباغوندا والعلاقات العاّمة. كان أوّل منعطف في هذا التحول انتقال القيادي الإخواني المصري ” خيرت الشاطر” إلى لندن لإصدار أوّل موقع عن الإخوان بالإنجليزي حين تم عقد الصفقة الشهيرة برسم التمكين، وسنجد أنّ مجلة دابق التي أصدرتها داعش بالإنجليزي متطورة من الناحية التقنية: تطور في تقنية البروباغاندا والخداع الميديولوجي. حتى الثمانينيات كان الإسلاميون يجهلون أصول العمل الصحفي، يحدّثني المرحوم د.فتحي عثمان عن المعاناة التي كان يواجهها مع طاقمه في
الصحافة المهجرية بلندن، حين كان ينصح ذاك الرعيل بأن لا يكتب مقالات صحفية كمقالة للوعظ والإرشاد. انظر في صحافتهم قبل سنوات ستدرك هذه الحقيقة، اليوم حصل تطور ولكنه تطوّر يستند إلى الخداع في غياب محتوى لفكر حقيقي صلب العود بعيد
المدى بنّاء.

كيف تصبح المعطيات التي تنتجها شبكات التطرف نفسها أساس كل معطياتنا بعد أن نجعل التقارير الدولية تنطق بها؟ هنا تدوير المعطيات يشبه تدوير النفايات..

المعركة ضدّ التّطرف ليست مزايدة أيديولوجية أو مناورة سياسية، هي أوّلا وقبل كلّ شيء واجب أخلاقي. وهي مهمة شاملة تنطلق من رؤية ورويّة. والعقل الذي يباشر هذه المهمّة يجب أن يتمتّع بأقصى الاستقامة الفكرية والذّوقية. وأولى تلك الشروط التي يقتضيها النظر في هذه الظاهرة هو الحسم المنطقي مع أصالة التناقض. ذلك لأنّ الأيديولوجيا في أوج معاقراتها للزّيف تعمي البصر والبصيرة وتجعل صاحبها يرى بعين الغريزة والميول والمصالح أكثر مما تمليه الحواس الخمسة التي هي مداخل المعرفة الأولى قبل أن يصار إلى امتحان المعقول منها واللاّمعقول. حتى الآن وخلال سنوات لم يتم استشراف أي حدث من خلال هذه الفوضى الميديو-غالطة.

هذا يؤكّد على أنّنا نشتغل بمنطق تدوير النفايات. إنّ الغالب على أحكامنا اضطراب النظر وتناقض الموقف، أمّا المنطق فقد قال
كلمته منذ تقرر أن حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد، غير أنّ خطاب (ضدّ-التطرف) لا زالت تعتوره فتوق كثيرة وتهيمن عليه ميول غير بريئة تجعل الصورة غير واضحة تماما. إنّ الإرهاب هو نتيجة لمسار طويل من العوامل التي تفعل فعلها في الشخصية الإرهابية. تأتي الأفكار لتمنح هذه الظروف شرعية الانفجار داخل مجتمع يعاني من عوامل شتّى تضمها البيئة الحاضنة. ولقد بدا مفهوم البيئة الحاضنة أكثر التباسا مع التمثلات المفهومية التي حوّلت مهمة الحرب على التّطرف لدى الكتبة هواية جديدة ككل الأنماط الطارئة على المجتمع. ولكن في كل هذا الاستعمال لم نجد ما هو تعريف جامع مانع للبيئة الحاضنة. في المتداول اليوم يفهم من البيئة الحاضنة وجود حالة اجتماعية أو ثقافية تمنح التطرف فرصة للنمو والتمكين، غير أنّنا نلاحظ أنّ البيئة الحاضنة هي أكبر من ذلك، حيث أنها تتسع لكل أشكال الانتهازية والمتجارة في التطّرف. البيئة التي تساعد على بروز الانتهازية والازدواجية في مقاربة التطرف وإشاعة خطاب الكراهية في ثنايا هذه الحرب التي باتت حرب مفاهيم بامتياز.

لقد دخلت قضية الإرهاب مرحلة متقدّمة، فمن جهة هناك تدفقت مجاميع الإرهابيين الذين يعودون بخيبات أمل كبيرة، وهم وإن كانوا مسؤولين عن أفعالهم الجرمية إلاّ أنهم لم يكونوا المسؤول الوحيد عما جرى. فالإرهاب هو معادلة متكاملة ومسار تسلسلي يبدأ بصناعة الأفكار والتحريض وتحريف الوقائع ثم ينتهي بممارسة الإقناع وجلب المنخرطين في العملية الإرهابية.

هناك خلال السبع سنوات الفارطة كان الخطاب السائد هو محاولة إخفاء الفعل الإرهابي في مناطق التّوتّر. وكان معظم المحللين لظاهرة التطرف اليوم في بلادنا منهمكين في الاجتهاد في إنكار وجود الإرهاب في بلدان التّوتّر. في تتبعنا لما كتب بدأ الحديث عن التطرف والإرهاب فقط في السنتين أو الثلاث سنوات الأخيرتين. قبلهما كان هناك تماهي بين الخطابات في السكوت عن الإرهاب.

حتى داعش صورها الكثيرون أنذاك على أنها ثورة اجتماعية حين اقتحمت الموصل، بينما النصرة كانت تلقى قبولا من قبل الكثير من الكتاب في هذا المجال بل هناك من آخذ معهم صور سيلفي واعتبر زيارة معسكراتهم بإدلب ودير الزور بطولة تغنّت بها الصحافة.

العائدون من مستنقعات الإرهاب عالقون في منتصف الطريق، من كان يحرّضهم من شيوخ التطرف هربوا إلى الأمام وتمثلوا لغة أخرى، الطابور المندس في وسائل الإعلام والذي راهن على تغيّر الخرائط من خلال موجات الإرهاب سرعان ما تنكّر لخطابه القديم وأصبح يخلط الأوراق بحيث تناقضت آراؤهم وظهرت وظيفيتها من كثرت التخبط والنّطّ من موقف لآخر. نحن أمام حالة من الازدواجية والهروب إلى الأمام. الموقف من التطرف ليس واضحا، فأغلب الذين يتصدون للتنظير في موضوع التطرف هم متطرفون لا زالوا في حالة اضطراب الأفكار والمواقف وماضيهم وعلائقهم ما ظهر منها وما بطن مع بؤر التطرف يؤكد ذلك، وقد بدا الأمر كما لو كنّا أمام حالة تصفية حساب. المتطرفون يناهضون التطرف ويلبّسون على الرأي العام ويسجلون إصابات تمويهية على التّطرف. من كانت توجد في سيرته الذاتية مقارعة للأفكار المتطرفة لا يمكن أن يساهم في التطور الاجتماعي وتحديث العلائق الاجتماعية في اتجاه العيش المشترك، ومن كانت في سيرته لوثة تخلّف اجتمعي وثقافي وتربوي لن تكون الأفكار والتمثلات التي يحترفها سوى تمرينا سوفسطائيا لضرب من البوليميك العبثي في مجتمع يتطلب برنامجا تنهيضيا وتربويا خارج منطق المزايدات والتكرار والوظيفية في تمثّل الأفكار.

مناهضة التّطرف تبدأ أولا وقبل كلّ شيء من فتح مصحّات للعلاج خاصة بظاهرة المتطرف الذي يحلّل ظاهرة التطرف، قبل الحديث عن أوراش للنظر والتفكر. مصحّات لعلاج مرضى صنّاع التطرف من داخل لعبة الكتابة نفسها. إنّ مشكلتنا اليوم هي أنّ كل شئ يتمّ بالمزايدة واحتراف نموذج الوطني الوهمي الذي يلوّث البيئة بمعطيات تعكس فقرا في المعطيات وتبلّدا في مقاربة الوقائع وهشاشة في حدس الحقيقة وملأ المشهد بمنقولات لا ابتكار فيها ولا جديد، يحترف التهويل والمبالغات ليكون له دور في هذا المقطع الفوضوي والانتقالي من تاريخنا..

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x