لماذا وإلى أين ؟

الاقتصاد الأمريكي بين توازن هش وضغوط تضخمية

ادريس الفينة*

خطاب جيروم باول الأخير شكّل منعطفاً حاسماً في قراءة السياسة النقدية الأمريكية. رئيس الاحتياطي الفيدرالي قدّم عرضاً مفصلاً لواقع اقتصادي وصفه بـ«التوازن الغريب»: سوق العمل يتباطأ بشدة، حيث تراجع خلق الوظائف إلى نحو 35 ألف وظيفة شهرياً مقابل 168 ألفاً في 2024، في حين بقي معدل البطالة مستقراً عند 4.2%. هذا التباطؤ، الناتج عن انخفاض العرض بسبب الهجرة وضعف المشاركة وتراجع الطلب من الشركات، يعكس هشاشة يمكن أن تنقلب إلى صدمة بطالة في أي لحظة.

في المقابل، لا تزال الضغوط التضخمية ماثلة، إذ ارتفع مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي (PCE) إلى 2.6% والنواة إلى 2.9%، مع مساهمة ملحوظة لرسوم الاستيراد الجديدة في رفع تكاليف السلع. أما النمو الاقتصادي فقد تباطأ إلى 1.2% في النصف الأول من العام بعد أن بلغ 2.5% في 2024. هذا التباين بين ضعف النمو واستمرار التضخم دفع باول إلى التأكيد أن قرارات السياسة لن تكون مبرمجة مسبقاً بل خاضعة حصرياً لتطور البيانات.

رسالة باول الأساسية تمثلت في فتح الباب أمام خفض وشيك للفائدة، على نحو يوحي بأن اجتماع سبتمبر قد يشهد أولى خطوات التيسير. الأسواق التقطت الإشارة سريعاً: مؤشر S&P 500 ارتفع 1.6%، وRussell 2000 قفز 3.6%، فيما تراجعت عوائد الخزانة وانخفض الدولار. تقديرات المستثمرين لاحتمال خفض قريب قفزت إلى أكثر من 85%، ما يعكس يقيناً متزايداً بأن الفيدرالي يستعد لتخفيف قبضته النقدية بعد عامين من التشديد.

لكن باول لم يمنح الأسواق شيكاً على بياض. فقد حذر من أن الرسوم الجمركية تمثل «تحولاً لمرة واحدة في مستوى الأسعار» قد يتحول إلى ديناميكية تضخمية ممتدة إذا غيّرت التوقعات السلوكية. كما ذكّر بأن مهمة الفيدرالي هي تحقيق التوازن بين استقرار الأسعار والحد الأقصى للتوظيف، وأن أي تيسير لن يكون إلا بقدر ما تسمح به الأرقام.

أثر الخطاب يتجاوز رد الفعل الفوري للأسواق. فهو يحدد ملامح المرحلة المقبلة: مرحلة «إدارة المخاطر» حيث تتقاطع معادلة هشاشة التوظيف مع استمرار التضخم فوق الهدف. أي خفض للفائدة سيكون ذا طابع وقائي أكثر منه توسعياً، هدفه الحفاظ على الهبوط الناعم ومنع انزلاق الاقتصاد نحو ركود. غير أن الاحتمال المعاكس قائم أيضاً: إذا تحولت الرسوم والعوامل الهيكلية إلى مصدر تضخمي دائم، سيضطر الفيدرالي إلى إبطاء أو تأجيل دورة الخفض.

*خبير اقتصادي

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x