2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

*نورالدين زاوش
وصف صحافي فرنسي مشهور وقريب جدا من الكاتبين: “كريستوف أياد” و”فريدريك بوبان”، بأنهما يلهثان وراء المال والشهرة، وبأن هذا ما أخبراه به وقت شروعهما في كتابة سلسلة “لغز محمد السادس”؛وإذ من الصعب تأكيد ما قاله الصحافي عنهما أو نفيه؛ حتى وإن كان قريبا جدا منهما؛ فإن الأمر يحتاج إلى مزيد من التقصي والتحري.
إن هذا الخبر إذا كان يزعج كاتبا “لوموند”، وهما مجرد كاتبين مغمورين، لولا مقالاتهما الأخيرة لما سمع عنهما ملايين المغاربة،فلماذا استعملا نفس الطريقة، ونهجا نفس الأسلوب في سرد الأخبار عن الملك، وهو ملك بن ملك بن ملك؟ الغريب أن الأمر تكرر، في الحلقة الثانية فقط من سلسلة “لغز محمد السادس”أكثر من عشر مرات وبطرق مختلفة من قبيل: “روى دبلوماسي فرنسي”، أوضح أحد الدبلوماسيين”، قال أحد المقربين من العائلة”، “قال مسؤول كبير”، قال أحد العارفين بالقصر”، “زميل سابق له”، “شخص مطلع جدا على شؤون القصر”؛ رغم أن لا أحد يعرف شيئا عن هؤلاء الدبلوماسيين والمسؤولين والمقربين والعارفين والمطلعين؛ ولا حتى أسماءهم أو أشكالهم أو طول حواجبهم أو ألوان عيونهم.
إن الحلقة الثانية التي جاءت تحت عنوان: “شاب في ظل الحسن الثاني”، جمعت من الأكاذيب والأباطيل ماجعلها منافسا شرسا لرئيس الجزائر “عبد المجيد تبون” الذي لا يُنافس، فبالإضافة إلى كيل الاتهامات الجزاف بلا بينة أو دليل، وسرد الأخبار بلا مخبر أو معين، واستعمال صيغ التمريض والأفعال المبنية للمجهول من قبيل: “رُوي”، و”قيل”، وصيغ الشك على شاكلة: “يبدو” و”ربما”، نجد الكاتبين قد اعتمدا منهجا شاذا في التعامل مع علاقة الحسن الثاني بابنه البكر، والتي من المفروض أن تكون شبيهة بالعلاقات الطبيعية بين الآباء والأبناء في أية أسرة مغربية؛ حيث إنه من الوارد جدا، والطبعي في الوقت ذاته، أن يغضب الأب من ابنه بين الحين والحين، وأن يصدر عنه كلام لا يقصد منه سوى التأنيب أو التوبيخ، مثلما يقع لمعظم الآباء؛ إلا أن الكاتبين- اللذين شهد صحافينا، الذي اختلقناه من وحي الخيال، بأنها يلهثان وراء المال والشهرة- لهما رأي مختلف، حيث إنهما جعلا من لحظات غضب عابرة مفعمة بالحماسة لأب جسور، موقفا سياسيا رسميا جديرا بالاستغراق في التقصي والتحليل.
لم ينس الكاتبان الموقران أن نَعْش الحسن الثاني كان تابوتا خشبيا، وأنه كان مغطى بقطعة حريرية سوداء منقوش عليها الشهادة، وأن الحَرَّ ذلك اليوم كان شديدا؛ لكنهما، للأسف الشديد، نسيا أن يسوقا الدلائل الدامغة والبراهين القاطعة، التي جعلتهم متأكدين من أن الحسن الثاني كان يرى وريث عرشه هشا جدا، وكان يراه لا يصلح للحكم، وأنه رضي بخلافة ابنه البكر فقط من أجل أن تستمر تقاليد الحكم في المملكة.
إن مثل هذا الادعاء الخطير يحتاج إلى أكثر من التخمين والتنجيم، وأكثر من كلمات يتيمات بلا معنى، يتم تصيدها من هنا وهناك، في ظروف وملابسات بعيدة كل البعد عن مواقع اتخاذ القرار؛ وإلا ما الذي يمنع من اعتماد جواب الحسن الثاني في ندوة مارس 1980م بمراكش،حينما سئل عن محمد السادس فأجاب: “له أسلوبه الخاص في الحكم ولي أسلوبي”؟
لو أن حلقة “شاب في ظل الحسن الثاني” صدرت بُعيد تولي محمد السادس العرش بأشهر قليلة أو سنوات يتيمة، لربما كانت أكثر جدوى وأعظم تأثيرا؛ إذْ كانت ستصب في مصلحة المتآمرين والخونة، وكانت، في الوقت ذاته، ستستفز فضول الوطنيين المخلصين الذين سيسعون للبحث عن الحقيقة؛ ولكن صدروها اليوم لم يعد بذات القيمة المرجوة؛ حيث بعد ست وعشرين سنة من الدلائل الدامغة في الميدان، والبراهين المجلجلة في أرض الواقع، تأكد للقاصي والداني، بما لا يدع مجالا للريب أو الشك، أن جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، قد نصره الله بالفعل، وأعلى رايته، ومرّغ أنوف أعدائه في التراب، وأنه حتى وإن كان قليل الكلام،قليل الظهور في الإعلام، كما يشير صاحبا المقال “النبيهان”، فإن من صفات منجزاتِه المتحدثة باسمه الثرثرة التي لا تتعب ولا تتوقف، وهذا هو الأهم.
لقد كتبتُ أكثر من مرة، بأنني كنت أعتقد جازما بأن عبقرية “الحسن الثاني” لم ولن يكون لها مثيل؛ حتى فاجأني جلالة الملك “محمد السادس” بما في جعبته، وصدق من قال: “يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر”؛ إن جلالته لم يكتف بإتمام مسيرة والده، رحمه الله، بثبات واقتدار مذهلين؛ بل صحح أخطاءه القاتلة، ورمم ثغراته الكثيرة؛ والتي لم يكن يستشير فيها مع أحد، ومن بينها للمثال فقط وليس للحصر: إقبار ما يسمى ب”الاستفتاء” الذي كان خِطئا كبيرا، وإبداله سنة 2007م بمقترح الحكم الذاتي الذي جمع العالم حوله،وكذا إنهاء حِقبة الانتهاكات الجسيمة، والتي كان يطلق عليها “سنوات الجمروالرصاص”،وبالموازاة تم إغلاق سجن “تازمامرت” سيء السمعة، وأُطلقت مبادرة “الإنصاف والمصالحة”، كما عمد “محمد السادس” إلى القطع مع مهازل الانتخابات، التي كانت في عهد “الحسن الثاني” تطبخ في دهاليز وزارة الداخلية، وكانت أقرب إلى المسرحيات الهزلية منها إلى محطات ديمقراطية تجسد رغبات الناس واختياراتهم؛ وهو الأمر الذي جعل الإسلاميين، لأول مرة، يقودون الحكومة لولايتين متتاليتين، حتى عافهما الشعب ولفظهما بنفسه، كما غير جلالته بوصلة “الحسن الثاني” التي كانت ثابتة نحو وِجهة الغرب المنافق، وجعلها تتجه إلى العمق الإفريقي؛ فرجع إلى حضن منظمة “الاتحاد الإفريقي” سنة 2017م، بعدما انسحب منها “الحسن الثاني” ذلك الانسحاب الذي أبدا لم يكن موفقا، كما تابع جلالته إصلاح سقطات والده الجسور بتثبيت دستور 01 يوليوز 2011م، والذي تم فيه رفع القداسة عن الملك الذي أصبح الملك المواطن، كما نحى جلالته إلى نهج تعدد الشركاء، فاستقطب روسيا والصين والهند وغيرهم، الأمر الذيجعل المغرب أكثر استقلالية، وأعظم نفوذا عما كان عليه في عهد “الحسن الثاني”.
مما ذكرناه، ومما لم نذكره خشية أن يطول المقال، يتبين بأن الملك الراحل، إذا افترضنا جدلا بأنه كان يرى العرش أكبر من مقاس وريث عرشه؛رغم أنه كان معروفا بالحكمة إلا إنها لم تلازمه طول الوقت؛ ورغم أنه كان مشهورا بالعبقرية إلا أنها خانته إلى أبعد حدود، وأعتقد جازما، لو أن الحسن الثاني عاد للحياة ليوم واحد فقط، ورأى الفرق بين المغرب الذي تركه وهو في تابوت خشبي عليه قطعة قماش سوداء، ومغرب محمد السادس، لتأكد من أن ابنه البكر كان على قدر التحدي وأكثر، وبأنه لم يكن ليصلح لحكم المغرب فقط، بل لحكم إفريقيا بأكملها، مثلما تمنت ذلك علانية كثير من الشعوب الافريقية.
*عضو الأمانة العامة لحزب النهضة والفضيلة
الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.