لماذا وإلى أين ؟

“مشاهد من قصة اغتيال” (ج2)

سابقت الأساتذة المتدربين في احتجاجهم ضد المرسومين ومعتقلي كلية العلوم الثمانية في نضالهم ضد الإجحاف والحيف… وأيّام أخرى بالقنيطرة نزفوا فيها لهفة وما كانت -لأسباب- يجهلها الزمكان ويعرفها من يعرف. فكل ما كانت تفكر به هو اقتناء المزيد من الكتب لأنها أحسّت باخضرار الربيع بداخلها.

كانت تريد الاستفادة من دروس من رحلوا فجأة واختفوا تاركين الظلال المتسائلة، من كانوا مشغولين بتقاسم الوليمة، من رفضوا لوقت طويل ديكتاتورية الدولة وكافحوا طويلا لتحرير الوطن من الاستعمار ليسلموا أنفسهم لحضن الحزب الواحد، لم يكن بالثوري طبعا، لكنهم ارتادوه لملء جيوبهم وإفراغ جيوب الكدّاح مثلنا!

رسموا صور حبيباتهم وبجانبها ثورة، لكنهم باعوا القضية واقتنوا بثمنها منصبا سياسيّا. فقد لبسوا ثيابا أخرى وارتدوا نظارات شمسية ونسوا بذلك كل الجوع الذي نخر أجسادهم واختفت أسماؤهم من بدر الثورة فجأة.
كانت ترقب أفول القمر وتتساءل:
كيف اختفى هؤلاء فجأة؟
تتذكر أحدهم: “الرجال الذين عزموا على إنقاذنا أصبحوا نساء محتجبات يرتدين النقاب ولا يتأخرن على نداء الإله للصلاة…” فترددها بين ذاتها وعندما تستيقظ تجد مارتيل كلها بمزاج جاهز للنقاش، أما هي فتجد نفسها جاهزة لكل شيء…
لم تعد تفكر بتلك الطريقة المثالية، ولم تبكِ يوما على خبز أمها الذي جف كجفاف قلبها فجأة!!!
وبين كل تلك الميتات، جاء اغتيالها الأكثر صدمة للكل، كلها هي طبعا، فلا كل بعد كلِّها. فهي التي دخلت الحياة من باب الموت فغادرته فجأة! ربما كانت تحاول الحياة، ومحاولتها تلك كانت، كإنبات وردة فوق أكوام القاذورات، تحاول عبرها اكتشاف حياتها باندهاش متأخر، كأنها عرفت أحدهم أو اسكشاف رائحة عطره عن قرب، كأنها عرفت فأصبحت كآخر غريبة في دائرة الأفول تتصفح الفيسبوك كصرصور جاسوس، متتبعة حراك الريف، محسن فكري وأيام تطوان الثقافية.
تلك الأنثى التي كان لها ذاك الحضور لسّري النّكرة، تلك التي تقاسمت عطرهم، خبزهم الحافي، جوعهم، روائح السجائر الخانقة التي تركوها بالمقصف وجلساتهم العميقة…

هي الآن بعيدة بركام حجارتها المتبقية منزلا صغيرا تأوي فيه أحلامها الوردية، وتصبح فيها وردة تهدي أشواكها لأبيها الذي أخطأ في صورتها وهي ابنة العقد الأول إثر انتشائه روح الحياة بطريقة أخرجته عن صوب العقلاء، ما جعلها والشقراء يكونان قصّة للأسف كانت أقصر من الحبل السري لأنثى الماعز المرتدة عن دين الأطلس.

زارتني يوما… تلك التي أروي قصتها بصمت رهيب. كنا على مشارف نهاية السّنة بآخر الليل الفاني، تعجبت لرؤيتها عندما فتحت باب الزنزانة ووشوشت بأذناي على منوال كافكا: “لا أستطيع تخليص نفسي من ذنب أنّني لست بالمكان المناسب…” وكأنها كانت تتقيأ صحوتها من مرارة تلك القرارات التي أسقطت عليها ظلما.
التزمت الصمت لوهلة لتدعني أفتح مجال دماغي للتفكير في كل ذلك ثم أتمّت بنفس منوال كافكا: “لا يمكنني حمل العالم على كتفي فأنا لا أكاد أحتمل عبء معطفي الشتوي فوقها”. أستجيب خوفي عليها بعد هذه المتاهة، فلربّما لن تجد نفسها بعد الآن، فهي التي لم تع حجم خسارتها إلا بعد ما علقت على كآبتها وسام الضحية.
لقد كان لليلتنا بهاء وسمرا مؤنسين، وكان لعدد الدّمعات التي تهاطلت من عينيها وشما على صدرها مكتوب فيه: “إننا في الحب كما في الحرب، ضحايا”.
لكن أكثر ما همّها من كل ذلك، أنها لن تستطيع الدفاع عن الجياع والمقهورين، تسليط لسان النظام داخل الحلقية، التعمق في السيّاسة ولا مضاجعة كتب الماركسية، إلا بعد مدة تتنامى فيها كل تلك الأطراف التي انكسرت على حافة أحلامها المتناثرة وتسترجع فيها الأنثى الصهوة التي أضاعوها بين دروب مارتيل…

كل ذلك جعل القطار يرحل دون أن تصل إليه، فهي التي خسرت كل طاقتها استعدادا لركوبه، “حمار الطاحونة” لم يكن يوقف عجلة الدّوران للحظة… لكنها تريد اللّحاق بالركب قُدما، بكل بساطة لأنها لم يسبق أن وجدت أحد المعطيات جاهزا دون أن تبذل فيه جهدا مضاعفا لما تبذله في معركة الكينونة، فدرب الإنسانية لا تنقطع سبله.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x