لماذا وإلى أين ؟

“مشاهد من قصة اغتيال” (ج3)

جاء عبق سنة أخرى تجاوزت فيها كل الميليشيا التي عفطت على ذاكرتها بأرجلها القذرة التي جرت معها كل أوساخ المدينة. محت من ذاكرتها كل الصور، الرسائل، التسجيلات وكل التفاصيل التي ربطتها بسرابات الماضي وأشعلت شمعة أخرى في ظلام احتواها لوقت طويل، فأشرقت سبيلا آخر لا يعرفه أحد من مَنْ حملوا معها مشقة الحياة سابقا، وعوّضته بشروق أناس جدد وأصدقاء لا تربطهم بالآخر سوى نبرة إنسان يرغب في الانتماء لحضن يملأ عبيره صدق، بدل عضو يفرغ فيه هواجس الأدوار…

تلك كانت محاولة ناجحة حقا، كونت فيه رحما ملوّثا بصيغة ثورة جديدة، لكن رغبتها في إسقاطهم تباعا داخلها كانت أكبر من مجرد هروب ولا حس يختليك لإزاحة غطاء حلوى… ثم يسألها أحدهم: هل أحببت من قبل؟… فتجيب: أحببت أربع مرات والخامسة سقطت سهوا… أما الباقين فكانوا نساءً لا غير!

ذاك العالم الساخر حولها، الذي تمكن منها في أول سلام، وسلب منها ضحكة بنكهة قصيدة. ذاك الطاغي الذي حاولت مرات عديدة خيانته، لكنها لم تخن إلا القرار… فهي لم تكن على قيد الحياة كما خيل للكثير منهم، هي كانت على قيدهم، على قيده (الغائب…)، انكسر الكحل في عينيها وسقط أحمر الشفاه عند الترجي ولم تحتفظ إلا بالفستان الأسود الشاهد على الانكسار الأبدي… فكيف يكفيها صدر وقد طردها أقربهم (صدرا) الذي اغتيل بكل ألم!؟

لم تكن بالعجوز، فهي لازالت عشرينية حديثة العهد، لكن أوجاعها قديمة قدم أطلال الاستعمار أو أكثر… أوجاعها رسمت مع كذبة المسيرة الخضراء التي ضحكوا بها على ذقون الأبرياء وجعلوهم يموتون مبتسمين رغم الإعاقة ظنا منهم أنهم يموتون في سبيل تحرير الوطن. قديمة قدم الكحل وأدوات التجميل التي تحاول بها عاهرات وطني تغطية البؤس المحيط بوجوههن الشاحبة، أصبحن بعدها لعبةً بأيدي كبار اللصوص…

تسألها إحدى صديقاتها: لم أنت متشائمة دائما عزيزتي؟
تبتسم ابتسامة تصاحبها دمعة ثقيلة الحجم، طويلة المدى خزنتها منذ أن وجدت أنهم قد سرقوا حقها في الأكل أيضا حين قطعوا أيديهم عن منحتها، وتجيب بقول محمد شكري: “أنا إنسان عاش التشرد وأكل القمامة، فهل ينتظرون مني أن أكتب لهم عن الفراشات…”

فقط لأنها هي أرادت الإبداع في رقصات الجراح ما دامت كالديك يرقص من ذبحه ألما لا فرحا… فالضحك، الدوران والغناء ليسوا إشارات للفرح بل ضمادات نغطي بها كدمات السّنين.

وقبل أن تغفو وتستسلم للنوم، ترفع نفسها عاليا، ترقب فوقها تلك الكلمات المخطوطة على جدران غرفتها…
تلك “لا” التي يرفعها كادح بأحد الدّواوير النائية حاول أحد الكلاب المسعورة جعله وجبة سريعة. تلك “لا” التي جاءت على لسان أم حاولوا منعها من الموت حينما زفوا لها خبر موت ابنها الجندي أثناء إحدى محاولاته للدفاع عن الوطن بمواجهة بين العسكر والبوليزاريو بكلميم. تلك “لا” التي يرفعها عشريني أو ثلاثيني لم يذق من الحياة حلاوة بعد، أثناء محاولته إنقاذ نفسه في قتال مع أمواج البحر الحقيرة بينما كان يحاول النجاة من مغربه والاتجاه إلى إسبانيا خلسة…

تلك اللاءات كلها، لا تشبه “لا” رفعتها مسكينة تبحث عن الرّغيف لأبنائها السبعة، أربعينية بسن التسعين، تحاول النجاة من كل الوحوش… تعتبر تحرش عشريني بها، كقبلة ابنها المتوسط أثناء السفر، تحاول أن تجد شيئا جميلا بعدما راحت ضحية باب سبتة إبّان دعسها من طرف أحد الرعاة المتنكرين بزي الوطن.

كانت تسعى لمواجهة فخ الزمن، فهي لن تكون أكثر من فدوى طوقان الأنثى الثورة التي أصبحت سنديانة فلسطين. وتلك اللاءات العديدة التي بدأت برفعها وهي جليلة أخيها تصادقه في كتابة الأشعار، ولا أكثر من غادة السمان التي كرهت المبالاة في الحب، ولم تحب له أن يكون متبادلا كي لا ينجب الأطفال والعادات والملل… أرادت فيه القليل من الحب الانفرادي التميزي لينجب العذاب والاشتياق الذي لا توقفه عقارب الساعة ولا تقتله غلبات الزمن…

كانت تقف على شرفة النافذة ترقب سقوط المطر.. تعود لزمن بعيد كانت فيه يتيمة المشاعر، تتذكر كل إفرازات الأحاسيس المنفردة التي خالجتها، لكنها تعاود التفكير فيما يختلجها الآن، هو ربّما نفس الشعور بوجع أثقل.. فلم تدير عجلة الذاكرة للوراء!؟ فكلنا

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x