لماذا وإلى أين ؟

كاتب مغربي “تحت سماء أندولسية”

وكالات

تقولُ إحدى المأثوراتُ: إذا أردتَ معرفةَ عمقِ البحيرةِ، فعليك أن تأخُذَ مجرى النَّهرِ عَكْسيا حتى تُدرك العينَ التي من عمقها يَطْلعُ الماء.
البحيرةُ، عند الشاعر المغربي مصطفى قشنني، في أضمومته الموسومة بـ»تحت سماء أندلسية ـ كالنهر في عزلته» ، هي اللُّغةُ وقد عدمتْ كلَّ الحواجز كي تُعانق الكونيَ، وما علينا، في هذا الاقتراب إلا أن نأخذ بدورنا مجرى النهر عكسيا.
بتتبُّع أعمال مصطفى قشنني، بدءا بـ»أجراس الريح» 1996، و»أشجار المرايا» 2000، و»تحت سماء لا تشبهني» 2007، و»في ذمة الضوء» 2014، و»أبعد من سماء.. أحلق» 2015، وصولا إلى «تحت سماء أندلسية»، موضوع هذا الاقتراب، قلت بتتبع هذا الناتج الشعري الثَّري والمعتبر، بمكنة العين الفاحصة أن تلمس رغبة هذا الرجل، في إخراج الشعر من إكراهات القصيدة بالمعنى الطللي. ربما هي رغبة، فاضحة ومفضوحة، في تَخْفيفِ النص من وزنيته، والقفز به من زمن الشفاهي إلى زمن الكتابي.. زمنِ حداثةِ الكتابةِ أقصد. لهذا وذاك، يُمكنُ التشديدٌ بداءةً، على أن هذه التجربةَ الواعدةَ، تسعى جاهدةً لكي تجد موضعا لها، في المشهد الشعري المغربي، باعتبارها تشكل حالة شعرية مختلفة، بزمن شعري خاص.
أغلب الظن أن مصطفى قشنني وهو يقترف فعل الكتابةِ، يضعُ اللغةَ في مهبِّ اليدِ التي لا تعبأُ بالعلو والانحدار. يدٌ حُرَّةٌ وشجاعةٌ لا تتردّدُ في جرِّ اللغةِ إلى منطقة الشهوةِ في الكلامِ بكل احتمالاته، لذلك فهو يبني النص، كما سنبين بعد قليل، مُتحلِّلا من سُمكِ التراكيبِ والجملِ المقبلةِ من الممارساتِ الطلليةِ وعاداتها، تلك التي تحولت، مع تقادُمِ العُرف، إلى كليشيهات خنقتِ الشعرَ وزجَّتْ به في أتونِ الانحسار؛ إذ بلُغتهِ الشّفيفةِ والقشيبةِ حدّ العُسرِ، جعل الجملةَ الشعريةَ تحتكمُ إلى سُلالتِها «كزجاجٍ شفافٍ» على حد قول صلاح بوسريف. يقول الشاعر:

ترْشَحُ
كما يرشحُ المجازُ
من لغة عارية
أنهكتها مطارقُ
النحاة..
هي إذن البلاغةُ تنزفُ
من فخِذِ امرأةٍ مُنزَّهةٍ
عن التشبيه..

اللغةُ، في هذا الديوان، طيِّعةٌ في يدٍ تُشكِّلُ الكلام لحظةَ الكتابةِ بعيدا عن أيِّ عسفٍ. إنها تَصَيُّرٌ دائمٌ، تماما كالنهر الهيراقليطي الذي لا ينشغلُ سوى بتدفُّقِ مائهِ وتبدُّلِ مجراه. ثمة إذن عُسْرٌ يُحوِّلُ اللغةَ إلى معاناة تأبى أن تنقطعَ، لذلك فإن مساءلتها انطلاقا من حدِّها المعياري، يعني أنَّ التَّعَبَ أخذَنا بعيدا، حيثُ إن المعرفةُ محْضُ غباءٍ. إن الشاعر وهو يستدرجُ لغتهُ، باحتيالٍ وحذرٍ شديدين، يُطوِّحُ باليدِ المحمومةِ في تخومِ إيقاعاتها، واضعا وميضَهُ في مواجهةِ دوالهِ؛ مؤسِّسا بذلك، وضعا شعريا مختلفا، لنص بهيئة بلورية ومتعدِّدةِ الأضلاعِ، على الرُّغمِ من اقتصاده اللُّغويِّ، نصٍّ مُتخفِّفٍ منْ غلواءِ المألوف وسياقِ عاداته كما في هذه الومضة:

النصفُ الفارغُ
من الكأس
وجهةُ نظرِ النصفِ
المملوء

ثمة إذن تكاثُرٌ دلالي يجعل النصَّ يتَلَبَّدُ أكثر فأكثر، ويُضاعف غموضه حينما يلتحم بالفكرة.. أو بالمفارقة المدهشةِ ويلِجُها مثلما هو الحال في الومضة السابقة. وهو ـ النص ـ بذلك، لا يَبْني موضوعه سوى بالمعرفةِ الأكثر إنصاتا لنداءات الشعر.
إن مصطفى قشنني، وعلى طول وعرض ديوانه، يسمي الأشياء بلغته الخاصةِ المنذورةِ لكلِّ الاحتمالاتِ، مانحا الوجودَ فرصةَ أن يتحققَ مرةً أخرى، وبطريقةٍ أخرى. هذا التَّصَيُّرُ المستمرُّ، يجعلُ الكلامَ في الوميض،َ يستدعي الموجودَ ماهويا، على خلاف الدوكسا اللغوي، أعني التسمية الميتافيزيقية للأشياءِ، تلك التي حدَّدَتِ الدلالةَ سلفا وبصفة مطلقة. والبيّنُ أن صاحبَنا لا يستدعي الكينونة الأندلسيةَ المُلبَّدةَ في الذاكرة، على امتداد القسم الأول من الديوان، إلا باللغةِ التي تنادي «في الصمت أكثر مما تنادي في النطق»، مُنْصِتا بالشعر ومن خلاله، لنداءِ الوجودِ:

الليلُ الأندلسيُّ
لم يبحْ لي بشيء
لكن اخترتُ
الإنصات
إليهِ مليّا..

الشعرُ وجودٌ وكينونةٌ بطريقة ما، وأسلوبٍ ما. إنها الكينونةُ المضاعفةُ التي بها ولها يحيى الشعراء. ليس من شك أنها الخلفية التي تُوجِّهُ الكلامَ عند شاعرنا. وهو نظرٌ، كما بدا لي، ينظرُ إلى الشعر باعتباره وعدا واثقا بالكشف.. كشف الوجود أقصد، أو أليثيا بتعبير هايدغر. انحياز الشاعر للغة العسيرة، بما هي خلق للمعنى المضاعف بتعبير بول ريكور، مدفوعٌ بحرارة الجسد الديونيزيسي المتوتر، كما لوّح نيتشه ذات فكرة. هذا الأمر يجعل البرنامج النصي لدى صاحبنا، يتهندم خارجَ ما درجتْ عليه عادةُ شعريةِ المعيار الأنالوجية. يقول الشاعر فيما يشبه الانقلاب على نظم القيم الأبُّلُوني :

مُتلألئةٌ مثلَ أنجُمٍ
أيْروسيةٍ تتعرَّى
خجلاً في ثُمالة كأسه
المُتْرَعةِ بالصّبَواتِ
اِشرَبْ لتصحُوَ
أيُّها الطّاعنُ
في نومهِ الوَسْنان

لقد أضحى الصحوُ لا يستقيمُ إلا بالشُّرْبِ، والتذكرُ لا يتحقق إلا بالنسيان، والدُّنُوُّ محالٌ في منأىً عن البعد. هذه الثنائية توضح بالملموس، ولو إلى حدٍّ.. عُمق الجرحِ الذي فتحته اليدُ الكاتبةُ في تبدِّياتِ النص، وذلك بالتفكير شعرا. أجل، لكل بداية نهايةٌ. والأكيد أن الموتَ يتربصُ بالبداياتِ. بدايةُ الأندلسِ كانت حلما.. ونهايتُها جرحٌ وألمٌ..
أيُّ ألمٍ هذا الذي يستتِبُّ بالشاعرِ؟
أهو ألمٌ ناجِمٌ عن انفصالٍ عن أصلٍ كان كما يقول هيغل؟
ربما بمفردِها الأَلْغُودِيسا (أي علمُ الألمِ) قادرةٌ على فكِّ شَفرةِ هذا الألمِ. ربما.. لكن:
ماذا تبقى بعد الفلسفة واللاهوت والعلم؟ إن ما تبقى، كما ورد على لسانَيْ هولدرلن وهايدغر، إنما يؤسسُه الشعراءُ فوق هذه الأرضِ.. الآن وهنا.. باللغةِ ولها، أليستِ اللغةُ هي المسكنُ الأصيلُ للوجود؟ بل هي، أيضا وعطفا، «من أخطرِ النعم» والعهدةُ على هايدغر دائما. وفي ألمِ مصطفى قشنني، ماضٍ يلجٌ حاضرا مثلـــما يلجُ النهارُ الليلَ؛ وللألمِ في الديوانِ تبدِّياتٌ جلَّتْ عن الحصر. لنتأمل، إلى حينٍ، هذهِ الومضةَ التي أنهى بها الشاعرُ بكائيتَه الأندلسيةَ:

باهتةٌ صورُهُم
في الترابِ
متكلِّسةٌ أنْفاسُهم
في الأنساغِ
متشظِّيةٌ أطيافُهم
في المرايا
معتَّقةٌ خمرتُهم
في سلالِ الغيمِ
ومُشِعَّةٌ جراحُهم
في المدى
كأسَ حُطامِ..
أما بعد..

وضعٌ جديدٌ للغةِ، واستباحةٌ قصوى لها. إنها اللغةُ وقد وُضِعتْ رهن اليدِ كعُكازةٍ في يدِ الضريرِ وهو يتحسَّسُ بها المجهولَ. يدٌ محمومةٌ تُرْفِدُ المكتوبَ بتوسيماتٍ مُتعجِّلةٍ ولاهثةٍ، في سبيلِ لغةٍ منذورةٍ للبياضِ، والمحو، محوِ ذاكرةٍ فُصاميةٍ إلى حدِّ الوعيِ باليدِ وخبرتها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x