2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
أعكاو: حين صرخ السجان في وجهنا “سكتونا راه ماشي هو الأول اللي مات راه ماتو قبل منو” (الحلقة 4)

تفاصيل الموت البطيء والنجاة بأعجوبة من معتقل تازمامارت ماتزال مختبئة رغم القصص التي رويت على لسان الناجين، منهم ضيف حلقاتنا عبد الله أعكاو (كان برتبة رقيب ميكانيكي متخصص في الذخيرة) الذي مازال لم ينشر بعد مذكراته على غرار جل الذين نجوا بأعجوبة، وهو الذي كُتب له العيش بعد قضائه 17 سنة داخل المعتقل الرهيب بتهمة محاولة الانقلاب على الملك الراحل الحسن الثاني.. في هذه الحلقات سنتذكر معه ماضيه الأليم منذ محاولات العيش وسط القبر إلى العودة لحضن العائلة وتلمس الطريق نحو الإدماج والإنصاف..
بعد حادثة خربوش تلقى الحارس بندريس، “شيطان تزمامرت”، أوامر من مدير المعتقل بإغلاق النويفذة الصغيرة على أبواب الزنازين بسلك، لذلك كنا نناديه بـ”السلك”. بعدها تغير نظام الأكل، بدءا من استبدال القبطان المكلف بالمطبخ، لأنه كان متعاطفا معنا، لينقسم رغيف الخبز الذي كان يُمنح لنا إلى تسعة عشر قطعة كنا نسميها “الدبليج” لصغر حجمها، أما وجبة الغذاء فأضحت نصف علبة سردين قبل أن يتم استبدالها بوجبة حمص أو عدس أو لوبيا، مختلطة بحشرات، بينما كانت “الشعرية” أو “المحمصة” التي يغلب عليها الملح والماء هي وجبة العشاء، فيما بقينا نستلم خمسة لترات من الماء في اليوم.
أياما على هذا النظام بدأ المرض يزحف إلينا شيئا فشيئا حتى وصل ذات يوم إلى محمد الشجعي فطرحه على الفراش، لكنهم تركوه يعاني في صمت ولم يلتفتوا إلى مطالبتنا بضرورة الإسراع لإسعافه.
أخبرنا عبد الكريم سعودي أنه لما أعاد الحراس، الذين استطاع مدير المعتقل أن يجعلهم غليظي القلب بدون شفقة، إدخال محمد الشجعي إلى العنبر وهو ملفوف في ما تبقى من بطانيته لم يكلفوا أنفسهم عناء التأني في وضعه داخل زنزانته المظلمة، فقد كان يراقبهم من النويفذة الصغيرة لباب زنزانته وشاهدهم كيف رموه بلا رحمة كما ترمى القمامة وغادروا المكان، وبعد مرور حوالي نصف ساعة عادوا ليحملوه من جديد، لنتأكد حينها أن الشجعي غادرنا إلى دار البقاء بهذه الطريقة الفظيعة.
أثناء العبور بجثته في الدهليز شرعنا في طرق الأبواب غاضبين من تعاملهم الفض مع جثة نخرها المرض والإهمال، بينما شرع أحدنا في تلاوة آيات من القرآن للترحم عليه. تصرفنا هذا أثار حفيظة بندريس ليصرخ في وجهنا قائلا “سكتونا مالكم كاتغوتو راه ماشي هو الأول اللي مات راه ماتو قبل منو”، لقد كان الشجي أول من مات بيننا في العنبر لكنه لم يكن الأول الذي يسقط في المعتقل، فقد كانت الأرواح قد سقطت في العنبر الثاني ولم نكن ندري ذلك.
كان بالإمكان إنقاذ الشجعي، الذي ساقته بدوره الظروف كي يكون شاهدا بالقاعدة العسكرية الجوية للقنيطرة على محاولة إسقاط الطائرة الملكية، من معاناته مع المرض لو سمع الحراس توسلاتنا وأبدوا ولو ذرة من الإنسانية، لنتأكد مجددا أنهم جاؤوا بنا إلى هذه الحفر لكي نموت بالتقسيط.
حادث سقوط أول ضحية بيننا وعلمنا بأن الأرواح تتساقط تباعا في العنبر الثاني، ينضاف إلى ذلك النظام الذي كان يسوقنا إلى الهلاك والموت المحقق، كلها وقائع أصابتنا بالصدمة والحزن، لذلك قررنا إعادة النظر في علاقتنا وأن نضع ماضي اختلافاتنا التي كانت بيننا خارج تزمامارت جانبا، وأن نتجاوز الاحتقان الذي ساد العنبر، إن نحن أردنا مواجهة العدو المشترك الذي يزحف في اتجاهنا حتى لا نمنحه فرصة لتسريع تصفيتنا، مقابل ذلك بقينا متشبثين بالأمل في أن تنتهي محنتنا لأن الأمل هو الذي لا يمكن لأحد أن يأخذه منك وقد أخذ كل شيء. لذلك عقدنا “اجتماعا” كانت نقطته الأساسية هي كيفية التعايش وقبول المصير الذي ينتظرنا، وأن نعترف بأن قدرنا شاء أن نعيش هنا حياة يجب تقبلها بشرها الذي لابد منه. ولتنفيذ ذلك وضعنا برنامجا، وأمرنا أنفسنا كما منا نؤمر ونحن جنود، بعيدا عن منطق الرتب العسكرية.