لماذا وإلى أين ؟

القدس في الفن الفلسطيني وفي الاستشراق عائلات مقدسية تبدع فناً دينياً مميّزاً

قبل الدخول في موضوع القدس، وكيف تبلورت في اللوحة الاستشراقية على مدى ثلاثة قرون كانت بمثابة الوثيقة التأريخية المصوّرة، للمدينة المقدسة التي لا علاقة لليهود في مراحل تطورها. نقول قبل الدخول في كل هذا، نرفع قبعة التأريخ احتراماً لعائلتين مقدسيتين، حوّلتا الحضور الفني إلى واقع مصيري، ووثيقة تصويرية أكدت حقيقة القدس.
والعائلات التي تشتغل بالفن المقدسي عديدة، لكن أبرزها وأرسخها قدماً هما عائلة زخريا بشخص الحفيد رمزي زخريا، نحات خشب الزيتون البارع؛ ذلك الذي يُعيد تنشيف خشبة شجرة الزيتون قبل نحتها وتحويلها إلى أيقونة مقدسية أو مسطحاً بارليافياً فيه من الإشارات والرموز التي تكشف عن صورة المدينة المقدسة.
فيما العائلة الثانية هي عائلة (زلاطيمو) التي اشتغلت بالفن والتصوير منذ أكثر من مائتي عام، وهي الآن تمتلك أكبر ارشيف تصويري في الشرق الأوسط، اغلبه عن مدينة القدس وتطورها العمراني، ناهيك عن النكبات التي حلت بها، من الزلازل إلى الاحتلالات والاعتداءات التي طالتها.
اما العائلات التي تشتغل بالفنون اليدوية مثل نحت وتصنيع الصدف، فإنها ومنذ خمسماية عام اوجدت فناً مقدسياً مميّزاً. إذ كانت تجلب الصدف من مدينة جدّة، لكن بعد العام 1948 صارت تستورده من الأردن ومن استراليا، فيما لم يزل يشتغل الأولاد والاحفاد في نحت الصدف وتحويله إلى تحف فنية مقدسية.
وللقدس مكانتها الرمزية عند كل فنان فلسطيني، وها هو الفنان الراحل إسماعيل شموط يثبت ذلك في كتابه عن تاريخ وتطور الفن الفلسطيني المعاصر حقائق عديدة. أبرزها ولع الفنانين الفلسطينيين (بالسمبول) الرمز المقدس، حيث الكرزة الذهبية هي الحاضر الابدي في ذاكرة الفنانين الذين نموا وتطوروا في الغربة، أو داخل الخط الأخضر في فلسطين عام 1948.
آلاف من الأعمال الفنية الفطرية، ومن رسوم الأطفال الفلسطينيين، ناهيك عن أعمال الكبار من فناني فلسطين امثال شموط والحلاج وعبد العال وغيرهم، حضرت القدس في لوحاتهم تدليلاً على الهوية الوطنية للوحة الفلسطينية، وحتى عبر اشتراك الفنان الفلسطيني في (البينالات) العالمية الكبرى مثل بينالي الاسكندرية، أو الشارقة، أو البندقية، أو سان باولو أو غيرها، كانت القدس كرمز تعبيري للوحة الفنان الفلسطيني. لهذا احتلت المدينة المقدسة في اللوحة الفلسطينية مكانتها الأولى، كما منحت هذا الفن الوطني الحديث حريته الأساسية.
ولكن ماذا عن القدس في اللوحة الاستشراقية الأوروبية؟
ان ستة قرون ونصف القرن من الزمن هي المدى الزمني الفاصل ما بين تحرير القدس من الصليبيين على يد صلاح الدين الأيوبي، وبدء قدوم أولى البعثات الاستشراقية إلى الأراضي المقدسة.
لقد كان الزمن آنذاك بمثابة انتباه أوروبي للمدينة المقدسة، حيث تأكد الحضور الإسلامي بأبهى اشكاله عبر المسجد الأقصى وقبة الصخرة، والتي يروى انها تعرّضت للدمار بفعل ثلاثة زلازل كان آخرها الأكثر تدميراً، لذلك أُعيد بناء الصرح المقدسي عبر تصفيح القبة بصفائح من رقائق الرصاص، وتدعيمها بخشب مطبوخ، وتركيزها على شكل (كرزة) تجلس فوق بناء مثمن الاضلاع، كإشارة لإلتقاء المربعين، لأن المربع هو المسكونة الإنسانية على الأرض، وهو اختراع وليس اكتشافاً.
ذات يوم كتبت عن القدس وعراقية الصخرة قائلاً: «ان هذا الاكتمال البسيط والمثالي لبيوت الله وفقاً للهندسة الإسلامية، شكل المعلم الأجمل في مدينة القدس المقدسة لأنه بما يمتلك من معطيات روحانية كبرى أضحى نقطة الارتكاز في وجدان الأمة بأسرها»..
في مطلع القرن الثامن عشر انبعث الاهتمام الأوروبي بالاراضي المقدسة، وكانت الأهداف مزدوجة بل كثيرة، ومنها إعادة الكشف عن المشرق العربي برمته، وبالحقيقة فإن الكشف عن الخامات والأسواق مع نهوض الزمن الكولينيالي شكل مدخلاً لإرسال تلك البعثات المعنية بالمسح السياسي للمنطقة، وكان لا بدّ ان يصاحب هذه البعثات عدد من الرسامين الذين كانوا بمثابة الكاميرا المعاصرة، وقد سجل قدوم هؤلاء الرسامين إلى البلاد المقدسة مدخلاً لمرحلة رومانسية شرقية ذات طابع تسجيلي، سحب العديد من الفنانين إلى الشرق البكر.
ويدوّن تاريخ اللوحة الاستشراقية بأن أوّل فنان رسم الأراضي المقدسة في فلسطين كان الفنان «كلارك» Clark الانكليزي الذي عبر من فلسطين إلى لبنان وسوريا، فرسم بأسلوب دقيق كافة الأماكن والزوايا التي سقط نظره عليها، حيث كان يمتلك عيناً لاقطة، ويداً مطواعة، إذ يكفي ان يأخذ بعض الملاحظات التصويرية الأوّلية، حتى يكملها بشكل مدهش في محترفه.
لقد أصاب الفنانون الانكليز بالعدوى الفنانين الفرنسيين آنذاك فبرزت ظاهرة الفنانين الاثنين بورتير وبرايز اللذين سحبا عدداً كبيراً من رسامي فرنسا إلى الأراضي المقدسة.
والغريب ان القدس كانت محطة الرحيل الأولى، لذلك اشبعت رسماً، فتم التركيز في الرسومات الاستشراقية المقدسية على الإنسان والمكان والفضاء الروحي، وقد كان الرسام الاستشراقي عارفاً لسبب تدوينه للذاكرة الإنسانية للمكان، لذلك جاءت اللقطات الشخصية مفعمة بالحضور والانس الشرقي مشروطاً بانتمائه الإسلامي أو المسيحي، ولم نعثر على لوحة استشراقية واحدة فيها رسم لكنيس يهودي، أو لحاخام، أو لمجرد مكان يهودي خاص.
ان اللوحة التي رسمها الفنان الاستشراقي الأشهر «ديفيد روبرنس» عن قبر يوسف عام 1838، لم تبرز سوى مسطبة يصلي عليها المسلمون، وهي التي كانت تسمى بالمسجد المكشوف، علماً بأن إسرائيل تعتبر اليوم قبر يوسف أهم معلم يهودي في المدينة المقدسة.
وتشكل لوحة الفنان الاستشراقي المبدع (باركلي) التي رسمها أواسط القرن التاسع عشر من بوابة دمشق بالقدس شهادة ديموغرافية عن عروبة المكان وأصالته لأن الحرس الذي رسمه وهو يحرس القافلة عند البوابة، كان يرتدي زياً إسلامياً فيما لوحة كنيسة القيامة الملونة بتفاصيلها الدقيقة تُشير إلى الحضور المسيحي.
ان الفترة المحصورة ما بين 1802 و1914 بداية انهيار الدولة العثمانية كانت غنية بالتدوين الاستشراقي، لا سيما وقد انفتح الفنانون الألمان ابتداءً من العام 1840 على القدس وشكلوا حضوراً تصويرياً مميزاً لم تزل متاحف المانيا تحتفظ حتى يومنا هذا بأعمال إيبريس، هولين، تينلر، شميدت، كارل ويزنر، وفان هنكل.
وفي محاضرة لنا حول القدس في اللوحة الاستشراقية، إذ ألقيت هذه المحاضرة في الشارقة ضمن فعاليات البينالي، قلت: «ان المكان وجميع جوانبه الأساسية، كان بشكل السحر الحقيقي لشخصية لوحة الاستشراق، انه ليس مجرّد حضور لمدينة ما، وليس مجرّد رسم لزوايا استثنائية لمدينة شرقية الطابع، بل ان كل زاوية مكانية من زوايا ارتكاز الصورة هو دفع للصورة نحو البؤرة المركزية الحيّة والتي هي قبة الصخرة الخضراء الجميلة، ذات الشبابيك المتعددة التي تحيط بالمثمن الجميل وتجعله متكاملاً من جميع زوايا النظرة».
اننا لو اعدنا النظر باللوحة التي رسمها الفنان البريطاني – الاسكتلندي الكبير ديفيد روبرش، عن مدينة القدس من جبل الزيتون، فإننا سوف نكتشف مدينة تلتف حول المسجد الأقصى ضمن توازن خلاب يُؤكّد على براعة التنظيم المدني العفوي، لكن عمت أيضاً موجة كاثوليكية هامة قادها الفنانون الفرنسيون، كرد على الموجة البروتستانتية.
هذه الموجة دخلت هذه المرة داخل الكنائس المسيحية القديمة، وقد برع كل من بوتيلر، وكاستيلان، ودوشانغر، ولويس دوبريه. وفيردنا نديوس، والاخوة غارنير، وغوسمان وغيرهم في رسم الديكور الداخلي لكنيسة القيامة. وكنيسة المهد، وكنيسة التطهير، لكنهم وجدوا هذا التقارب الرائع بين توزيع القباب الثانوية حول القبة الرئيسية تماماً مثل النمط الإسلامي العام في جامع عمر.
يقول سفر «يوئيل» اليهودي الذي عاش 40 عاما قبل الميلاد: «لقد اظلمت الشمس والقمر وسحبت الكواكب ضياءها، يزأر الرب من صهيون، ويجهر بصوته من اعالي السموات والأرض. ولتعلموا انني انا الرب الساكن في صهيون، حيث تكون اورشليم قدساً لا يمر فيها الغرباء من بعد ذلك اليوم، تكون مصر خراباً، وآدوم قفر خراب لأنهم عنفوا بني يهوذا وسفكوا الدم في أرضهم فيسكن يهوذا للأبد اورشليم من جيل إلى جيل. ولا اتغاضى عن دمهم الذي تغاضيت عنه فأبيد نسلهم، وستكون اورشليم بداية القضاء على البشرية من غير بني يهوذا».
هذه هي القدس التي يريدها اليهود.. المدينة التي تباد فيها البشرية، ونحن الذين نريدها مدينة للسلام

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x