لماذا وإلى أين ؟

عن مهام الحركات الديمقراطية العربية

عمرو حمزاوي

مهمة أولى تقع على عاتق الحركات الديمقراطية في العالم العربي تتمثل في العمل القانوني والمدني لمواجهة انتهاكات حقوق الإنسان والحريات المتكررة والدفاع عن الضحايا والتضامن مع ذويهم والإصرار على محاسبة المتورطين في الانتهاكات التي تتصاعد اليوم بسبب الممارسات العنيفة التي تواجه بها بعض الحكومات احتجاجات المواطنين. أما المهمة الثانية، والتي يختلف سياق فعاليتها الزمنية عن السياق الآني الذي تتسم به مواجهة الانتهاكات وجهود الدفاع عن الحقوق والحريات، فهي توظيف أدوات النقد الذاتي لإعادة النظر في منطلقات الحركات الديمقراطية العربية وإنتاج تقييم موضوعي لدورها الراهن والبحث عن سبل تعافيها مستقبلا. هنا، وبجانب قراءة الخبرات العالمية الملهمة لحركات ديمقراطية مكنها النقد الذاتي من تجاوز وهن عقود السلطوية أو وهن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية أو وهن الاستقطاب المجتمعي الذي يزين للناس الهويات الطائفية والحروب الأهلية ومقولات الاستبداد على حساب الفكرة الديمقراطية، ينبغي التفكير في مجموعة من الحقائق الرئيسية التي تصيغ الواقع العربي الراهن.
من جهة أولى، يستحيل المزج بين الفكرة الديمقراطية وبين فهم للعلاقة بين المواطن والمجتمع ومنظومات الحكم يستند إلى تبرير احتكار المنظومات هذه لمؤسسات وأجهزة الدولة واختزالها إن في إرادة حكام مطلقي السلطات والصلاحيات أو في فعل نخب طائفية وفاسدة ومن ثم تشويه الدولة بفعل طغيان القمع وتغييب العدل وسيادة القانون. فالقناعات الكبرى التي تتشكل من حولها الفكرة الديمقراطية تتمثل 1) في حتمية تحرير المواطن الفرد من استبداد الحكومات والانتصار لحقه في الاختيار الحر إزاءها تماما كما تنتصر الفكرة العلمانية لذات الحق لجهة السلطات والمؤسسات الدينية، 2) في ضرورة فك حصار الحكومات للمجتمع وغل اليد المستبدة والطائفية والجبرية والقامعة لمؤسسات وأجهزة الدولة لكي تتحرر إرادة الناس وتصان إنسانيتهم من الظلم والقهر والخوف ومن ثم تطلق حيوية وفاعلية واستقلالية تنظيمات المجتمع الوسيطة والقطاع الخاص، 3) في التمسك بتطبيق مبادئ العدل وسيادة القانون وتداول السلطة والمحاسبة لإنقاذ مؤسسات وأجهزة الدولة من أخطار احتكارها من قبل الحاكم الفرد والنخب الطائفية وللحيلولة دون التوظيف الاستبدادي والاخضاعي لقدراتها وتوجيه تلك القدرات للاضطلاع بمهام الدولة الأصلية وهي ضمان العدل والأمن، 4) في الاقتراب من الإدارة الرشيدة (الكفؤة وغير الفاسدة) والتوافقية (محل رضاء قطاعات شعبية واسعة) والعادلة للموارد والثروات.

على الحركات الديمقراطية في العالم العربي العمل القانوني والمدني لمواجهة انتهاكات حقوق الإنسان والحريات المتكررة والدفاع عن الضحايا والتضامن مع ذويهم والإصرار على محاسبة المتورطين في الانتهاكات التي تتصاعد اليوم

من جهة ثانية، ليست بلاد العرب باستثناء على القاعدة السابقة التي تثبتها تواريخ البشر المعاصرة، شرقا وجنوبا كما غربا وشمالا. وليس الدفاع عن الفكرة الديمقراطية اليوم بممكن ما لم تستقر في الضمائر والعقول أولوية حق المواطن في الاختيار الحر وحق المجتمع في الحرية والإنسانية واستقلالية تنظيماته الوسيطة وقطاعه الخاص وواجب الدولة في ضمان العدل والأمن والتزام سيادة القانون. وليست الحركات الديمقراطية العربية بمغادرة لمواقع وخانات الوهن الراهنة ما لم تسلم جميع أصواتها ومجموعاتها ويقنع الراغبون في الانتساب إليها بكارثية تبرير إخضاع المواطن وتمرير حصار المجتمع وإبعاد مؤسسات وأجهزة الدولة عن مهامها الأصلية واختزالها لصالح حكام مطلقي السلطات أو نخب طائفية فاسدة. تورطت الحركات الديمقراطية العربية طويلا في استدعاء «حالة الاستثناء» وخطاب «الضرورة» لشرعنة تأييد الحكومات المستبدة ومساندة ملوك الطوائف، وكثيرا ما ساومت على الدفاع المبدئي عن الحقوق والحريات بالاستسلام لمقايضات سلطوية مآلها الفشل كالاستقرار في مقابل الحق والأمن في مقابل الحرية. ولن تجدد دماء الفكرة الديمقراطية في العالم العربي ويستثمر معرفيا وسياسيا الحراك الاحتجاجي الذي أعادته إلى شوارع وساحات مدن السودان والجزائر والعراق ولبنان قطاعات غير منظمة من المواطنات والمواطنين دون أن تمارس الحركات الديمقراطية العربية نقدا ذاتيا صريحا لتواطئها مع المستبدين والطائفيين ولمساوماتها المتكررة.
من جهة ثالثة، حين تتصاعد اليوم في نقاشات الديمقراطيين العرب وعلى وقع المظالم المتراكمة والشواهد المتتالية للنتائج الكارثية للاستبداد والطائفية والفساد أصوات الإدانة العلنية لانتهاكات حقوق الإنسان والحريات وتعلو أصداء المطالبة بإحياء السياسة كنشاط حر وتعددي وتفاوضي وغير طائفي وتتواتر الدعوة إلى مقاومة النهج الأمني المسيطر على مؤسسات وأجهزة الدولة، نكون إزاء تحولات إيجابية داخل الحركات الديمقراطية العربية جوهرها التفاعل البناء مع الحراك الاحتجاجي والمساعدة في تخليق الأطر المعرفية والسياسية الملائمة له. غير أن رسوخ هذه التحولات الإيجابية يرتبط عضويا بتطوير الديمقراطيين العرب لمواقفهم باتجاه إعادة الاعتبار لحق المواطن في الاختيار الحر ولاحترام مشاركته في إدارة الشأن العام عبر الاحتجاجات السلمية وعبر الآليات والإجراءات الانتخابية دون التحقير من وجهة الاختيار والمشاركة، وباتجاه التشديد على الأفضلية الأخلاقية والأولوية المجتمعية والسياسية لحماية حيوية وفاعلية واستقلالية تنظيمات المجتمع الوسيطة غير الطائفية إزاء تغول مؤسسات وأجهزة الدولة المسيطر عليها من قبل الحكام مطلقي السلطات والنخب الطائفية، وكذلك باتجاه التيقن من أن إقرار حق المواطن في الاختيار الحر واستقلالية المجتمع هما مع إجراءات العدالة الاجتماعية ضمانتا نشوء وتماسك طبقات وسطى قوية تدعم الديمقراطية ببحثها عن المبادرة الفردية وبطلبها للعدل وسيادة القانون والتداول السلمي للسلطة.

كاتب من مصر

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x