لماذا وإلى أين ؟

عندما يواجه الجيش الجزائري غياب تاريخه

نور الدين ثنيو
الرئاسيات الأخيرة في الجزائر كرست «نظام حالة طوارئ دائم» لأنها من تنظيم القيادة العليا للجيش، الذي آل على نفسه منذ عقود، التمسك بالسلطة، حتى لو أدى ذلك إلى تقليص السيادة الجزائرية على منطقتي القبائل الكبرى والصغرى وجزائريي الخارج وتجريفه للإرادة الشعبية، صاحبة السيادة وخطفها منه، في شكل قرصنة تمت في عالم افتراضي وهمي، وتلك هي طريقة حكم القيادة العليا للجيش الجزائري.
فما يعرفه الشعب الجزائري عن جيشه يتم عن طريق الشاشة الوطنية الرسمية. واليوم أكثر من أي وقت مضى، لم نعد نرى تقريبا إلا صورة «القايد» وهو يخوض وحده آخر معاركه في الثكنات العسكرية، حيث يعاين الأوضاع، ويتأكد من أي تململ أو نزعة لخلخلة نظام الطاعة. فالصورة التي تقدمها الشاشة الوطنية ليست إطلاقا صحيحة، فلا تخاطب الجماهير ولا تعرّفهم بما يجري حقيقة في البلد، بل تحوّلت القناة التلفزيونية اليتيمة إلى «وزارة الحقيقة»، تقدم لهم في الموعد المقدس نشرة الثامنة فقرات من خطاب الحاكم الفعلي، في مشهد لا يحسد عليه في العالم إلا كوريا الشمالية، ذلك هو الوضع الذي أوصلنا إليه «القايد» وبقايا النظام الآفل.
ما يعرفه الشعب الجزائري عن جيشه يتم عبر الشاشة الوطنية الرسمية ولا نرى من الصور إلا لحظات الاستعراض العسكري، والمناورات والتشكيلات العسكرية، التي تقام بمناسبة الزيارات الرسمية، أو لتنقلات كبار الضباط في النواحي العسكرية، ومشاهد مرتبة لمجموعات من لصوص الحدود تم القبض عليها في حالة تلبس بالحشيش والمخدرات وتهريب السلع. أما باقي مشاهد الجيش في التلفزيون، فتذهب مباشرة إلى عصر الثورة المسلحة (1954ء1962) حيث تعرض بعض الصور المكررة لوقائع جيش التحرير. أما كل التاريخ ما بين اللحظة الراهنة وتاريخ الثورة، فلا يوجد ذكر للجيش ولا لمؤسسته، ولهذا السبب بالذات أي عدم قدرته على تأسيس مؤسسة مستقلة عن الأشخاص. فقد كان لتماهي الجيش مع الدولة دوره السلبي جدّا، حال دون إنشاء مؤسسة بهيئاتها المجردة ووظائفها المنزهة عن الاعتبارات الشخصية، وعن السياقات السياسية الظرفية. الأمر الذي حرم الدولة الجزائرية من أهم مؤسسات المرحلة المدنية لتاريخ الجزائر المستقلة. فالمقولة المتداولة اليوم بين الكتّاب والباحثين هي صعوبة، إذا لم نقل انعدام، كتابة تاريخ الجزائر المستقلة، بسبب الغياب الفادح لتاريخ المؤسسة العسكرية. تلك هي الحقيقة المرّة، التي تتعامى عنها بقايا السلطة، وتعاند في تقديم نفسها إلا في شاشة التلفزيون، لاعتقادها أنها الوسيط الذي يقدم الحقيقة.
حقيقة، برز الجيش بغياب مؤسسته وبغيابه عن تقديم نصيبه من النشاط الأمني والعسكري في تنمية البلد، واكتفى بالاستحواذ على مقاليد الحكم، والتحكم بالدولة العميقة، والتصرف في نواتها الحيوية، الأمر الذي أعفاه من كل مهمة وطنية، فله الدولة بكاملها ولا يريد أن يزيد عن ذلك. فلا نعرف خبيرا عسكريا يوضح قضايا الأمن في العالم العربي، والمسائل الاستراتيجية في العالم، بل لا نعرف ماذا جرى في كل الأحداث الأمنية، التي حلّت وعصفت بالبلد، سواء جاءت من الخارج أو بتواطؤ من الداخل. وكل ما نعرفه، إذا ما قرأنا مذكرات بعض العسكريين، أن الجميع يكاد يجمع على خيبة كبرى في هيئة الجيش، الذي لم يحسن تحديد موقعه في الدولة الجزائرية المستقلة، ومن ثم ضاعت على الجزائر ليس مؤسسة الجيش فحسب، بل تجربة عربية وافريقية ترشحها إلى أن تكون بمثابة منطقة «جنوب شرق آسيا» أو»الهند الصينية»، وغيرها من مناطق العالم، التي توفرت فيها حركة تاريخية أهلتها لتنمية لاحقة مزدهرة.
الظهور المبالغ فيه «للقايد» على شاشة التلفزيون، يؤشر إلى نهاية أسطورة الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير، هذه المقولة التي استهلكت في وعي الشعب، من فرط تداولها وترديدها إلى حد الملل والقرف. فالمقولة لا تصادر الدولة فقط، بل تصادر حتى الثورة التحريرية أيضا، لأن هذه الأخيرة لم تكن من صنع الجيش الجزائري كمؤسسة، بل ثورة شعبية لا تنطوي على أي تراتبية أو تنظيم هيكلي عسكري معترف به دوليا، ولا يتحلّى بأي شرعية مؤسساتية، بل كل التدابير والترتيبات لخوض الحرب ضد السلطة الاستعمارية تمت من وحي لحظة الإعداد لها وتسييرها في ما بعد. والثورة في هذا المقام هي لتحرير البلد وهذا ما تم فعلا. بينما مهمة الجيش الوطني الشعبي هو لبناء الدولة المدنية الحديثة، التي تكتفي بذاتها ولذاتها، وتبقى كهياكل وأجهزة ومؤسسات ذات طابع عام تُعْرف بمواطنيها وتُعَرّف بهم أيضا.

 

جيش التحرير الذي حرر الوطن ونال الاستقلال والسيادة، ومن هنا إمكانية كتابة تاريخه وتاريخ الثورة، بل إعادة تقييم ودراسة ومعالجة كل التاريخ الجزائري، إبان الاحتلال، لأن الثورة من خلال ثمارها تساعد على إضفاء الشرعية على ما قبلها برمتها، على تباين واختلاف وتفاوت الفعل السياسي والثقافي والاجتماعي. وهذا ما لم يحدث مع الجيش الوطني الشعبي، الذي صادر واغتصب الصفة الشعبية، خاصة في الثلاثة عقود الأخيرة، حيث صار جهازا محتكرا من قِبَل دوائر ضيقة جدّا امتد إلى أبناء الجنرالات فقط. وعليه، فإن «الشاشة الوطنية» التي تقدم صورة غير حقيقية عن الجيش الوطني الشعبي لأنها تعرض ما هو استعراضي، ومشاهد من المناورات العسكرية، ومشاهد أخرى للجنود وهم في حالة تدريب، ومشاهد لضباط يقَلِّدُون دفعات من المتخرجين، ومشاهد أخرى لوحدات أمنية وهي مصطفة خلف سلع ومواد مهربة على المناطق الحدودية، التي لا توازي حقيقة ماهية هيئة الجيش في الواقع. والحال، أن الصورة النمطية التي تقدمها « وزارة الحقيقة» ليست منافية تماما لما هي عليه هيئة الجيش فحسب، بل مخلة أيضا بقيمة أي جيش في العالم، فأي قيمة لأفراد الجيش وهم تحت رحمة خطاب خاو، يتابعون ببله عظيم جملا بالكاد يفهمون مدلولاتها، وبمشقة أكبر يسجلون ملاحظاتهم. الجميع في حالة وجوم وفي وضع المنفِّذ للأمر، ينتظر فقط الإفراج العام.

 

إن غياب تاريخ «المؤسسة العسكرية» في جزائر ما بعد الاستقلال، هو الذي ترجم على مستوى النفسي شعور الجزائريين دائما بالتخلف والدونية، حيال البلدان الأخرى، حتى البلدان المجاورة. والحالات النادرة التي تشعر فيها الجماهير الجزائرية بعزة النفس وشرف الانتماء إلى الوطن الأم، عندما يحقق الرياضيون انتصاراتهم في منافسات دولية، يكون فيها الفعل البطولي للرياضة فقط، بعيدا عن «عطالة» الجيش ولا جدواه، وهكذا، وفي التحليل النهائي والمطاف الأخير، يبرز الجيش الجزائري بغياب تاريخه «الوطني»، ويظهر في الأوضاع الاستثنائية والحالات الشاذة يكون هو صانعها، ولعلّ أخطر المنزلقات التي يعدها اليوم هو سعيه إلى إفراغ الحراك من مضمونه التاريخي الذي يجب أن يرتب إنجازه العظيم: دولة مؤسسات القانون والحق وتجاوز نهائي لدولة العسكر. كل المقدمات والتمهيدات التي يرتبها «القايد» تنبئ عن مجازفة خطيرة عنوانها الكبير والعريض: سلطة بلا دولة، حكم بلا حكّام، أجهزة بلا شرعية، لأن إرادة الشعب قد تم دَهْسها والإجْهاز عليها من قِبَل بقايا العصابة وأزْلامها.

 

في الختام، ولعلّه في البدء، هذه المقالة ليست أبدا محاولة للنيل من الجيش وأجهزته الأمنية، بقدر ما أنها تسلِّط الضوء ولو خافتاً على منطقة غامضة وغير واضحة للناس، لم تنل حظها من الكشف والبيان، وصارت عصية عن الدخول إلى المقررات المدرسية وبرامج التعليم. فعندما يلتفت أحدنا إلى الوراء ثلاثين سنة خلت، فماذا يرى؟ سوف يقرأ بوضوح تام أن العقد الأول منها كان حربا أهلية شرارتها الأولى اغتيال رمز الثورة الجزائرية وأيقونة المعارضة السياسية محمد بوضياف، ثم عقدين آخرين لتأسيس دولة العصابة تحت الرعاية السامية والمتعالية لقيادة الجيش وأجهزته الأمنية. أما قانون المصالحة الوطنية، فهو يقرأ اليوم، حسب شهادات وشواهد الجيش ذاته، مجرد صفقة لتبرئة أجهزة الأمن وخلاياه من جرائم الإبادة وتصفية الإسلاميين. وما كان بعد ذلك من وقف للإرهاب، فلم يكن ذلك ممكنا، إلا بعد ما تأكد للمستثمرين فيه أن مصالح الدولة وأجهزتها ومؤسساتها توفر ما يمكن نهبه وتبديده بشكل شرعي، وبحماية قوانين تسنها العصابة ذاتها. فبعد كل هذا، لماذا يُصِرّ بعضُنا على قراءة الخير وإمكانية الانفراج في الجمهورية المقبلة، بعد كل هذه المقدمات التي تُعْدِم التاريخ ولا تبقي منه ما يمكن أن يصلح للتداول والتعامل.
كاتب وأكاديمي جزائري
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x