لماذا وإلى أين ؟

رائحة الفقر.. قراءة تحليلية لـ”طفيلي”1/2

رضوان القسطيط
كأي مشاهد عادي شاهدت فيلم “طفيلي” للمرة الأولى قبل أشهر من تتوجيه في حفل جوائز الأوسكار فكان انطباعي الأول أنه مجرد فيلم يتحدث عن الصراع الطبقي بين ثلاث أسر، أسرتين فقيرتين وأسرة غنية، إلى أن كانت المفاجأة أن حصد الفيلم 4 جوائز أوسكار من بينها أحسن فيلم وأحسن فيلم أجنبي، فكان لزاما من المشاهدة ثانية لمحاولة اكتشاف ما جعل لجنة التحكيم تمنحه هذا التقدير.

فيلم “طفيلي” الذي يندرج ضمن أفلام الكوميديا السوداء لمخرجه الكوري الجنوبي المناضل والناشط السياسي اليساري المخرج “بونج جون هو” يقول عن فكرته أنها تكونت لديه حين كان يدرس طلاب من أسر ميسورة في منازلهم وكان يفترض ماذا لو يستطيع أن يعيش رفقة أصدقائه بمنازل هذه الأسر، وشدد أنه لم تكن أمنيته أن يمتلك منزلا كالذي يشتغل فيه بل كان يتخيل أنه يتطفل على هذه الأسر مع أصدقائه.

العنوان “طفيلي” وما يقصد به المخرج هو ما تحمله الكلمة من معنى، أي الطفيليات التي تعيش في الجسم العائل وتتغذى منه. وكما هو معروف فالكائن الطفيلي مصدره الأكل الفاسد أو الماء الملوث أي الكائن الذي ينشئ في بيئة فاسدة، كما هو حال عائلة “كي- تيك”، والطفيليات أيضا هي كائنات دقيقة لا ترى بالعين المجردة، إذ أن الأنظمة السياسية الفاسدة لا ترى الأسر المهمشة ولا تقيم لها وزنا.

أول ما قد يشد انتباه المشاهد للفيلم ومنذ الدقيقة الأولى هو المشهد الذي امتد قرابة 23 ثانية، مأخوذ بزاوية تصوير على مستوى العين يظهر منها أن البيت يقع في طابق تحت أرضي حيث مستوى النافذة أدنى من مستوى الشارع وأمام النافذة جوارب معلقة كي تجف، في دلالة قوية على الطبقة التي ينتمي إليها أصحاب البيت وأنهم يعيشون تحت خط الفقر بالمعنى الحرفي.

أولى مظاهر التطفل تظهر مباشرة بعد المشهد الأول حين تنزل الكاميرا من على مستوى النافذة لنجد فتى يمسك هاتفه محاولا التقاط إشارة “واي فاي” الجيران ليكتشف أنهم غيروا كلمة السر، والأسرة كانت تحتاج شبكة الأنترنت بشكل ملح ليتواصلوا مع محل للبيتزا ليبيعوا له العلب التي في حوزتهم، فتوقظ الزوجة زوجها ليجد حلا للمشكلة، فكان الحل تطفليا مرة أخرى، ليتبين لنا أن التطفل هو أمر اعتيادي لدى هذه الأسرة، وهو أن يبحثوا في أرجاء البيت عن إشارة واي فاي مفتوحة أيا كانت، فعثروا عليها في أقرف مكان في البيت فكان مشهد الفتى رفقة أخته يمكسان هاتفيهما جنب كرسي قضاء الحاجة بالمرحاض وهو المشهد الذي أبدع المخرج في تصويره وتحديد إطاره لإبراز المعاناة التي يعيشونها كأسرة طفيلية.

ثم المشهد الذي يظهر فيه عامل شركة يرش المبيدات الحشرية في الشارع فيرفض الأب إغلاق النافذة لأن في الأمر منفعة لبيتهم أي إبادة الحشرات التي في البيت رغم الضرر الذي يمكن أن يلحقهم، واستمر الأب في جمع العلب رغم أن الدخان والغاز يملأ البيت.

إلى هنا يكون المخرج قد بلغ صورة عامة عن أسلوب حياة هذه الأسرة التطفلي لينتقل بنا إلى مرحلة “العقدة” أو “الصراع” في السيناريو.

ومن أهم نقط القوة في أي سيناريو هو أن يحس المتلقي بنوع من التعاطف سواء مع الشخصيات “الشريرة” أو “الطيبة” منها، وهو بالضبط ما حصل في “طفيلي”، حيث في خضم الصراع الدائر لن يحدث أن تكره أي شخصية في الفيلم بل ستتعاطف مع كل واحدة منها بقدر ما، سواء الأسرة الغنية بسذاجتهم وطيبوبتهم أو أسرة “كي- تيك” بفقرهم المدقع.

كما أن السيناريو يكشف “الجانب المظلم” لكل الشخصيات ليتجنب بذلك “التجسيد المثالي” أو الملائكي الذي يسقط فيه بعض كتاب السيناريو النمطيين، فالحديث عن حقوق الفقراء لا يعني تجسيدهم في أدوار ملائكية وتجسيد ممثلي الرأسمالية شياطين. فالأزمة الحقيقية هي الطبقية وهي المحور الرئيسي، فالطبقة الفقيرة هي السبب في نشأة الكائن الطفيلي والحرمان الذي يعيشه. وبمجرد اقترابه من الغني التصق ودب فيه وانتشر دون شعور العائل/الغني، وقد حصل هذا دون أن يفقد تعاطف المشاهد لأنه طفيلي لا مورد آخر له.

نفس الأمر بالنسبة لأسرة دونج إيك الغنية فرغم طيبتهم فهم يرفضون أن يقتربون من الأسر المسحوقة أو تقترب منهم وهو ما يظهر في حوار “دونج إيك” مع “كي- تيك” وهو يقيم العاملين عنده، من فيهم يلتزم حدوده ومن يتعداها.

المخرج “بونج جو هو” لم يجسد الطبقية فقط في السيناريو وشخصيات الفيلم، بل أيضا في زوايا التصوير وإطارات الصورة، إذ أنه من أول الفيلم وهو يعتمد زوايا فوقية وتحتية لإظهار سفلية طبقة وعلوية أخرى، وعند انتقال أول فرد في الأسرة الفقيرة أي الابن للعمل عند الأسرة الغنية تعمد المخرج تصويره بزاوية فوقية وهو يصعد في عقبة كنوع من الارتقاء من طبقة لأخرى.

كذلك عند عودة الأسرة الفقيرة إلى بيتها وهي تنزل في درج طويل ومرورها عبر نفق تحت أرضي.

أما الإسقاط الأروع للمخرج عن الطبقية كان ذلك الفرق الذي أبرزه بين القصر وبين المخبأ السري الذي يبنيه أصحاب القصور تحسبا للحرب أو لضربة نووية من الجارة كوريا الشمالية، أي أن النزول إلى التحت وإلى الطبقات السفلى لا يكون إلا تحت الضغط والقهر وهي الظروف التي تعيش فيها الطبقات المسحوقة طول العمر، الأمر الذي يفهم منه أن حياة الفقر أشبه ما يكون بالعيش تحت القصف بالنووي باستمرار.

يتبع..

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x