لماذا وإلى أين ؟

هند عروب تكتب: إذا وقعت كورونا ليست لوقعتها كاذبة

هند عروب

بعد زلزلة الوباء وصفعة الطارئ ووقوع البلاء، تجندت الدولة المغربية مسخرة آلية الحكومة لتبني تدابير استعجالية استثنائية وحلول طارئة لمواجهة كورونا والحفاظ على الشعب و الوطن آمنين. إنها تدابير وقائية، لا يمكن إلا تثمينها و قرارات تكشف أنه حين نسعى لإيجاد الحلول نحقق المراد. فما اتخذ من إجراءات و حلول تحت طائلة الطارئ، تمت الدعوة له في سياقات تاريخية و اجتماعية و سياسية جمة منذ استقلال المغرب إلا أن آذان أولي الأمر كانت تُغَلق و بوابات الحوار توصد و لا رد سوى القهر و الردع و العقاب. فيتم الزج بالمطالبين بتحسين الأوضاع و الحقوق المعيشية و الكرامة و العدالة والمساواة في السجون و المعتقلات. و ها هي ذي كورونا اليوم تعري بنياتنا الهشة و حقيقية أوضاعنا الواهنة و تفرض على الدولة المغربية اتخاذ ما يلزم دون أن يتم اعتقالها.

لقد هرولت الدولة المغربية فزعا لتبني كل التدابير الوقائية من الوباء و كذلك الاجراءات الاحترازية من انفجار الغضب الاجتماعي للمقهورين والمعوزين و ذوي القوت اليومي، فبادرت في سرعة تفوق سرعة عقارب الدقائق و الثواني لإنشاء صندوق كورون- و تجميع 23 مليار درهما في بضعة أيام و دون اقتراض – و طمأنة المعوزين بإعانات مادية قدرها 2000 درهم و تأجيل دفع الالتزامات المالية من كراء و فواتير و أقساط بنكية وما إلى ذلك من التدابير التي تخفف وطأة الحجر المادية و تحفظ الصحة و السلامة و القوت للمواطنين و كذلك أمن و استقرار البلاد مخافة صرخات الجياع الذين يمكن أن يُخرجهم جوعهم من الحجر الصحي إلى العصيان المدني في الشوارع. فالجوع لا تردعه لا الطوارئ و لا القوانين. و البادي، أن الدولة المغربية في زمن كورونا تجتهد في إيجاد الحلول لكل المشاكل التي فجرها الوباء، فلماذا – إذن- كان النظام السياسي المغربي يرنو العقاب لمواجهة المطالب الاجتماعية بدل الانصات و الانصاف؟

أتمنى أن تؤسس كورونا لزمن تتحرر فيه قنوات الحوار الاجتماعي و يتعزز الإنصات و الإنصاف و الثقة بين الحاكم و المحكوم، كما أهيب من المؤسسة الملكية كأعلى سلطة في البلاد – من خلال هذه السطور- أن تأمر بإطلاق سراح معتقلي الرأي و الاحتجاجات الاجتماعية و استثمار طاقة هؤلاء المعتقلين في مواجهة كورونا وبناء مقدرات الوطن ما بعد كورونا، فهم أناس مؤمنون بعقيدة البناء و التطوع من أجل الوطن، و لم يصرخوا في الشوارع و على منصات الآراء إلا لأنهم يحلمون بوطن يُثمر فيه الأمل و الأمن.

إن هذه الكارثة الوبائية جعلت البشرية موحدة من أجل هدف أوحد، ألا وهو محاربة الوباء والنجاة من فتكه. فالعالم بأسره، يصحو و يتنفس و ينام مراقبا منحنيات و معطيات تطور الفيروس و كم حصد و سيحصد من الأرواح في هذا البيت الفسيح/ كوكب الأرض، إذ أنسانا لهاثنا اليومي أن مصائرنا كبشر مترابطة أوصالها على هذا الكوكب الذي أضحى التواصل فيه افتراضيا و جشع الأنانية أمرا واقعيا.

لقد ظن إنسان القرن 21 أنه ملك مقاليد التحكم في الحياة بدباباته و اختراعاته و اعتدائه على الطبيعة و توقعاته للخطر حتى باغتته كارثة صحية شبيهة بأزمنة الطاعون و الكوليرا، كارثة بطلها وباء مثقاله مثقال ذرة، فتاك لا مرئي ضوئي السرعة و العدوى. هذا اللامرئي شل حركة العالم و خارت أمامه قوى أعتى الدول بنية واقتصادا فما بالك بالدول الضعيفة هشة البنى و التي تفتقر لأدنى شروط الصحة و السلامة. فهل كورونا صفعة الطبيعة الأم التي اعتدى عليها الإنسان؟. من الأكيد، أن كورونا زلزال سيشكل نقطة تحول تكتونية في واقع الحياة البشرية، سينقلها من عهود ما قبل كورونا إلى ما بعد ها.

و ما بعد كورونا سيدخل المنظومات المحلية والعالمية عصرا آخر من الأنماط و المفاهيم إذ سيكسر المتوارث من الدال و المدلول في جميع الميادين من سياسة و اقتصاد واجتماع و علوم. ستتغير ملامح العالم و مفاهيم العلاقات الدولية وأنماط الحكم و السياسة و أشكال الاقتصاد و العلاقات الانتاجية و الاستهلاكية، الأمر الذي سيؤثر على حركة مراكز القوى و مدلولاتها ولاعبيها. فهل سيعود بنا زمن ما بعد كورونا إلى عصور الانكماش السياسي و العزلة الدولية أم سيؤسس لنظرية الكل بحاجة إلى الكل؟ هل تدبير إغلاق الحدود الاستثنائي والاحترازي سيتحول إلى حقيقة دولية اعتيادية أم هي دعوة لإعادة التفكير في إشكال الحدود وحرية التنقل؟ هل سيتحول الحجر الصحي إلى حجر سياسي على الشعوب حتى في الأنظمة الديمقراطية أم أن الحجر الصحي سيجعل الأنظمة الديكتاتورية تعي قيمة شعوبها؟ وهل ستتحول الجيوش إلى قوى عاملة بناءة بدلا من استخدامها في حروب الإبادة الإنسانية؟ و أي دور سيناط بالمؤسسات الدولية المالية بعد فشلها في توقع كارثة كورونا؟ هل ستكتفي بإعادة هيكلة اقتصادات العالم أم ستعود إلى فرض مخططاتها و توريط الاقتصادات الهشة في ناعورة قروضها؟ و ماذا عن صحوة الضمير الجمعي الذي رجته كورونا، هل سيلقي إلى العالم بصدى الوجع الفلسطيني و السوري و العراقي و اليمني والمهاجر السري و اللاجئ و المسجون ظلما؟ هل ستستفيق الشعوب خاصة المقهورة لتحدد لنفسها دورا في مساراتها التاريخية بتعزيز مفاهيم التماسك الاجتماعي والتقارب الطبقي والوعي بأن مصائرنا مُعَلق بعضها ببعض؟

لقد حُجر على إنسان كورونا غنيا وفقيرا، و أقدامه باتت بحاجة إلى تصريح حتى تدب خارج مسكنه، كما اختزلت احتياجاته في ما هو ضروري و حيوي لبقائه. فكأني بكورونا تدعو البشرية لتتذكر آدميتها و بساطتها بعيدا عن الاستهلاك الباذخ، إنها دعوة لإعادة تحديد دلالات العلاقة بالذات و الاحتياجات، و كذلك إعادة التفكير في الصلة بالآخر الداني و القصي، فهذه الكارثة ستحيلنا على معان جديدة لصلاتنا بالأنا و الآخر و الروح و المادة و الزمان و المكان بل بالحياة جُلا و كلا.

إن هذه الكارثة الوبائية، قد تكون فرصة للأنظمة القهرية لإعادة النظر في سياساتها و في هدر ميزانياتها على سياسة المراقبة و العقاب بدل تسخيرها لبناء شعوب و أوطان قوية ترفل فيها العدالة و المساواة و يتحقق العلم و العمل و الكرامة. و لن تمضي هذه الكارثة دون أن تترك رسالة للأنظمة القوية أيضا، رسالة مفادها أن السيطرة على البورصات العالمية و السطوة العسكرية و تجارة الحروب و التقدم التكنولوجي يمكن أن يخر في هنيهة أمام فيروس خفي.

أما على المستوى الإنساني، فحلول هذا الوباء في حياتنا و إلزامنا الحجر هو فرصة لتعقيم – ليس فقط الجسد- بل اللسان و الفكر و الروح و تمرين الذات على الصبر و الابداع و تبني روح الفكاهة والدعابة و التعلم وإحياء الروابط الأسرية و العائلية و التلاحم المجتمعي، فما كورونا إلا إعصار و سيمضي إلى حال سبيله تاركا – عبر الأرواح التي حصد و يحصد- عبرا لمن يعتبر من أولي الألباب.

” ابق فدارك” من أجلك و من أجل الذين هم على خط النار ” خارج دارهم” للإبقاء على حياتك.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

2 تعليقات
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
شهم
المعلق(ة)
26 مارس 2020 07:52

طالت غيبتك سيدتي أين أنتم فالمغرب كان ولازال في حاجة علماء الاجتماع.

كاره الظلاميين
المعلق(ة)
25 مارس 2020 20:41

صدقت سيدتي وأحسنت!
تحياتي واحترامي

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

2
0
أضف تعليقكx
()
x