لماذا وإلى أين ؟

عصيد: لماذا لا نأخذ العبر من تاريخ الأوبئة ؟

أورد الدكتور نبيل ملين المؤرخ المغربي العديد من الوقائع التاريخية في هذا السياق الذي يعرف فيه المغاربة تكتلا وطنيا وتعبئة ضدّ وباء عالمي، وهي وقائع تشير إلى تجارب المغاربة مع الأوبئة، والتي تظهر أنه عندما يتخذ المسؤولون الرأي الحازم بالوقاية من المرض فإنهم ينجحون في حماية البلاد والعباد أو التقليل من آثار الأوبئة الفتاكة، بينما عكس ذلك عندما يقعون فريسة الخرافة والفكر الغيبي يكون هلاكهم محققا.

ففي المراحل التي يحاصر فيها الطاعون بلاد المغرب قادما من أوروبا أو من الحدود الشرقية، ويقوم فيها السلطان بالمبادرة بإغلاق الحدود والمنافذ مع أوروبا ومع الجزائر في الوقت المناسب، فإن المغرب يُنقذ من كوارث محققة، حيث تكون أضرار الوباء أقل مما كان يمكن أن تبلغه لولا اتخاذ الاحتياطات الضرورية. وذلك مثل ما حدث مع الطاعون الذي ظهر بالإسكندرية عام 1783م. والذي ساهم في تأخير قدومه إلى المغرب التدابير الوقائية التي اتخذها السلطان محمد بن عبدالله (1710م ـ 1790) لحماية البلاد من وباء ما لبث أن شرع في حصد الأرواح بالجزائر، فأمر السلطان بإغلاق الحدود الشرقية وحراستها عسكريا.

ويخبرنا الدكتور ملين بأن أحد الصوفية المغاربة من عصر آخر وهو ابن أبي مدين قد تنبه إلى انتشار الطاعون بالعدوى عبر الهواء والقرب من المصابين، فقام بتخزين ما يكفي من المواد الغذائية وبنى صورا على باب منزله لمنع أي اتصال بالعالم الخارجي، فتمكن بذلك من إنقاذ عائلته وعدد هام من تلامذته.

بالمقابل حدث في القرن الثامن عشر، وتحديدا في عهد السلطان سليمان بن محمد (1797 – 1822م)، أن جاء وفدُ الحجّاج المغاربة من الشرق حاملين معهم في سفنهم خطر الطاعون الداهم، الذي كان قد انتشر بالشرق الأوسط آنذاك، وفي الوقت الذي نصح فيه الكثير من القناصلة الأجانب بطنجة وأهل الرأي والمشورة سلطان المغرب بضرورة الإسراع بوضع الحجاج والتجار القادمين من الشرق في العزل الصحي أربعين يوما قبل السماح لهم بالدخول تحسبا لأي خطر، فضّل السلطان سماع رأي الفقهاء الذين أشاروا عليه بعكس ذلك معتمدين أحاديث منسوبة إلى النبي كالحديث القائل ” الطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم و رجز على الكافرين “، أو الحديث القائل عن الطاعون: “عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحدٍ يقعُ الطاعونُ فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد”. معتبرين أنّ الأوبئة لا ينفع معها الاحتياط والحذر لأنها ابتلاء من الله وقدر لا رادّ له، وكان الرأي المنتشر بين فقهاء الدين آنذاك هو ما أورده ابن حجر العسقلاني في كتابه الخطير “بذل الماعون في فوائد الطاعون” والذي قال فيه إنّ العدوى ليست من المرض وأن الطاعون لا يُعدي بنفسه بل يحدث ذلك بقدر من الله وبإرادته حيث كتب: “إن المرض لا يعدي بطبعه أصلا بل من اتفق له ذلك المرض فهو بخلق الله و ذلك منه ابتداء” !!

ولأن السلطان سليمان كان متأثرا بالوهابية السعودية التي كانت حديثة الظهور آنذاك، فقد انحاز إلى الرأي المتشدّد للفقهاء ضدّ حكماء الرأي والمشورة السياسية، فأمر باستقبال الحجاج وتراخى في تدابير الوقاية في التعامل مع التجار القادمين من المشرق وأوروبا فكانت الكارثة المحققة، حيث ما لبثوا أن نشروا فيروس الوباء عبر ربوع البلاد التي كانت تعاني من حروب ومواجهات بين السلطة المركزية والقبائل، فساهمت محلة السلطان وجيوشه في نشر الطاعون بأنفسهم في كل المناطق الأخرى، وعندما تفطن إلى ما طلبته الهيئة القنصلية بطنجة كان ذلك متأخرا. وقد ظل المغرب يعاني من بلاء الطاعون لعامين كاملين، فهلك خلق كثير وتقلص بموجب ذلك عدد السكان إلى ما يقرب من الثلث.

نفس الشيء ذكره المؤرخ العراقي علي الوردي عن الوباء العظيم الذي ضرب بغداد سنة 1831، حيث جاء الوباء من تبريز بإيران متنقلا بالتدريج نحو العراق إلى أن بلغ كركوك بكردستان، فطلب والي بغداد آنذاك داوود باشا من طبيب القنصلية البريطانية إعداد خطة للحجر الصحي بهدف منع الوباء من التقدم نحو بغداد، وقد أعد الطبيب الخطة فعلا ولكن الفقهاء عارضوها وأفتوا بأن الحجْر الصحي مخالف للشريعة الإسلامية، وأن الأصل في الدين هو اعتبار الوباء ذا “فوائد” وعِبَر لأنه عقاب من الله يجعل البشر يتوبون إليه، ومنعوا داوود باشا من اتخاذ التدابير الضرورية لمنع الوباء من التقدم، فصارت القوافل الواردة من إيران وكردستان تدخل إلى بغداد بكل حرية، ما أدى إلى هلاك مئات آلاف البشر.

ويذكر الوردي أن الكثير من الأجانب الأوروبيين الذين كانوا يعيشون في بغداد، وكذلك من العراقيين المسيحيين الذين كانت لهم نفس ثقافة الأوروبيين، وكذلك اليهود، قد لجأوا إلى تطبيق الحجر الصحي حيث تحصنوا في بيوتهم ولم يغادروها شهورا إلا بعد انتهاء البلاء، وقد استعدوا لذلك بشكل جيد عبر توفير المؤن ومواد التغذية الضرورية، ولهذا أفلتوا من “الموت العظيم” كما كان يسمى الوباء آنذاك. بينما بلغ فتك الطاعون بالناس الذين لم يتخذوا احتياطات الحجر الصحّي درجة مهولة “حتى قيل إن عدد الموتى في اليوم الواحد بلغ تسعة آلاف”.

إن التاريخ عِبرٌ ودروس، ولكن لا يكون لها جدوى إلا بوجود عقول وألباب تعتبر.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

7 تعليقات
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
محمد
المعلق(ة)
الرد على  Amnay☆From☆Spokane
27 مارس 2020 09:04

للتاريخ الانسان العربي والميلم لا يستفيد من دروس التاريخ ويتشبث بحجرة سيزيف.

Amnay☆From☆Spokane
المعلق(ة)
26 مارس 2020 11:10

لماذا التدليس على الناس ،كتبت تعليق فلم ينشر ،لقد قال درس القرآن و الحديث 35سنة فلماذا لم تذكر الأحاديث التي تتكلم على الحجر الصحي و التداوي،وماذا قدمت انت للعلم سوى الهجوم على الاسلام و المتدينين،فالغرب لم يخترعوا لأنهم غير مسلمين بل اخترعوا لأنهم اهتموا بالعلم.و الاسلام يحث على العلم.

لطفي
المعلق(ة)
26 مارس 2020 10:18

عصدتها يا عصيد كعادتك المعصدة …
ماجئت به يا أقبح من حتى في مواضيع شتى هو الهدي النبوي في أبهى تجلياته .. فأنت تقر بما خربشته هنا من خربشات بأن سيد الخلق صلوات الله و سلامه عليه ” لا ينطق عن الهوى ” :
إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه.”
أليس هذا كلام الرسول صلى الله عليه و سلم ؟؟؟
هيا يا عصيد .. قد تبثت عليك الحجة و ارتد عليك الحجر فأدمى قولالتك .. هيا قل : أشهد ان لا اله الا الله و ان محمدا رسول الله …
ولا تأخذك العزة بالاثم ..

CatchMeIfYouCan
المعلق(ة)
26 مارس 2020 03:50

هذا مقال اريد به باطل، ما يريد أن يقول الكاتب ان الصوفية تستعمل العقل و المنطق، و الوهابية لا،و الكاتب لم يذكر قط أحاديث نبوية شريفة عن الحجر الصحي.الكاتب له نية مبية من خلال هذا المقال.يعني مقال غير بريء. و نعرف لماذا !!!!

احمد
المعلق(ة)
26 مارس 2020 01:36

الدكتور ملين يجب ان يضيف ان المغرب في ظل قيادته الحالية اتخذ ما يلزم للحفاظ على الامة.
اما الذين لا زالوا يريدون فرض الفكر الخرافي فاقول لهم
جربوا ان تقفزوا من عمارة من 10 طوابق.
ان فعلتم فإنه مكتوب عليكم ولن تحاسبوا.
هل يجب ايقاف عجلة العلم لكي لا ينكشف فكر امثال ابو النعيم واصحاب منهج حلم العدل في الاحسان …

بوطيب الكامل
المعلق(ة)
26 مارس 2020 00:18

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه.” (متفق عليه)، وهذا ماسماه الناس حاليا الحجر الصحي …أما عن فهم طبيعة المرض ، فإن الكنيسة هي التي كانت تعتبر المرض عقابا للانسان لأنه ارتكب خطيئة ، ليمرروا صكوك الغفران ، هذه إذن أوربا التي تقدمت اليوم ..أما الإسلام ، فيعتبر المرض قدرا وابتلاء ، إذا كان سيصيب الإنسان ،فلامفر منه ..سواء الأوبئة أو غيرها ،لكن مع الأخذ بالأسباب وعلى رأسها الحفاظ على نظافة البدن والثياب وسلامة المأكل والمشرب والمضجع أيضا.هذه تعليمات كلها ثابتة وتدابير كلها ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أصحابه الإسلام ..أما فهم بعض السلف ، فهي أخطاء في الفهم كما أشرت وقعت فيها البشرية جمعاء ، بل من سلفنا من رفض آلات لها منفعة كبيرة على الناس واقتصادهم ومازال بيننا قوم لا يؤمنون بكثير من الأشياء ويعتبرونها بدعة ..الإسلام منهم بريء لأنهم يتطاولون على ماليس لهم به علم والله عز وجل يقول للإنسان وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ..ولا تقف ماليس لك به علم ..

عبدالغني الزبيري
المعلق(ة)
26 مارس 2020 00:10

إن مثل هذا العلماني هم من أوقعوا بالمغرب نحو الهاوية، حيث أصبح العديد من عموم الشعب يهتمون للتفاهات،
عوض الاهتمام بالأمور التي تجدي نفعا،
لطالما رأيت هذا الشخص في جل ندواته،
يهاجم القيم الدينية ومقدساته.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

7
0
أضف تعليقكx
()
x