لماذا وإلى أين ؟

عندما تحمل الأمثال الشعبية تواصل الأزمة

بعض الأحيان نتعب أنفسنا كثيرا في البحث عن نماذج تواصلية لإدارة أزماتنا.. غالبا ما نلجأ إلى خبرات أجنبية ومدارس خارجية فرنسية وأمريكية مثلا، لبناء خطاب واستراتيجيات تواصل الأزمة. في حين أن قواعد تواصل الأزمة، التي تعد أحد مجابهتها، توجد في ثقافة الجماعة المتعرضة للأزمة.

لكل جماعة بشرية تقاليد وأعراف في تدبير أزماتها الخاصة والعامة، الصغيرة أو الكبيرة، تقاليد منقوشة في التاريخ وفي الانثروبولوجيا الثقافية، وسوسيولوجيا تطور المجتمع. هذه التقاليد هي مزيج ثقافي تجمع ما بين الدين واللغة والعرف والانتماء الاجتماعي، تتشكل من خلال تجارب لتصبح خلاصات وقواعد تواصلية اجتماعية لإدارة ظرف طارئ مأزوم.

فلا يمكن أن نستورد نماذج وقوالب تواصلية لسياق أزمتنا من نسق ذهني ثقافي خارجي، دون مراعاة للتربة المحلية التي سيزرع فيها. هل هي تربة محافظة أم حداثية، هل تستهلك تكنولوجيا الاتصال أم لا تقتنع إلا بالتلقين الشفهي المباشر، هل هي مقاومة للعنصر الأجنبي الجديد أم سهلة التأقلم والتكيف، وغيرها من المفارقات.

الأزمة في عمقها هي كيان اجتماعي دينامي، بمعنى أنه حي ومتحرك كالجسد البشري، يقتات من الوقائع والأحداث وينمو ويكبر و ينتج افرازات، بل ويعدي أجسادا أخرى. التموقع الجيد إزاء الأزمات والتوصيف الحقيقي لها، يساعد على تعقب مصادر تطعيمها وبالتالي إمكانية التحكم في قنوات إفرازاتها ومحاصرة انتشارها. على سبيل المثال، أزمة جائحة كورونا هي ليست أزمة صحية فحسب، وإنما أزمة متعددة المخرجات، تبتدأ بالصحي وقد تصيب السياسي أيضا مرورا بالثقافي والاجتماعي والاقتصادي وغيرها.

ما يهمنا هو تحديد نوع الخطاب ونوع التواصل الذي ينبغي تبنيه لمواجهة تداعيات الأزمة. في نسقنا الثقافي هناك تراكمات من التجارب الاجتماعية لمواجهة مراحل الاظطرابات، تحتاج إلى استخراج مبادئ تواصلية منها بغية تحويلها إلى نماذج للتواصل. التواصل الاستراتيجي للأزمة هو ليس تواصلا عاديا إخباريا. بمعنى نحن لا نتواصل في الأزمات من أجل الإخبار أو ممارسة العمل الصحفي في نقل الخبر والتعليق عليه، وإنما نتواصل استراتيجيا بهدف الإقناع بتوجيه الحركة الجماعية نحو فعل ما أو الامتناع عنه، أو إعطاء شرعية لعمل ما أو نزعها عنه، أو تحقيق أهداف أخرى كخلق حالة تضامن ووحدة وغيرها من الأهداف، على شكل رسائل خفية وظاهرة في محتوى الخطاب التواصلي.

الإشكال الحقيقي في استراتيجيات تواصلنا لا يكمن في استعمال التقنيات التكنولوجية، وإنما في محتوى الخطاب، هل يصل هذا الخطاب إلى جميع الفئات الاجتماعية بنفس القدر وبنفس القوة؟

في المغرب مثلا، عندنا أمثال ومقولات وشعارات شعبية هي بمثابة عصارة تجارب لتدبير الأزمات بين مختلف الأطراف، كيفما كان حجمها. لدينا أمثلة كثيرة جدا تعطي فاعليتها التواصلية وتقوي الطرف المتواصل وتخلق فضاء للقضاء على الأزمة.

“كبرها تصغار”، حينما يكون مفيدا إدخال أطراف أخرى في النزاع لحلحلة الأزمة؛ “اللي ما عندو سيدو عندو للاه”، عندما يتم البحث عن سند رمزي قوي أو مادي، لتذويب الأزمة أو الخلاف. “ها العار، اللي غلب يعف” حينما تضعف الوساطة، فيتم اللجوء إلى لغة المقدس المختلطة بثقافة النخوة القبلية في العفو عن المخطئ. “حنا الله وبالشرع”، حينما يلتمس طرف ضعيف كان أو قويا، النأي عن الدخول في خلاف أو صراع قد يحدث أضرارا لايمكن إصلاحها فيما بعد، بغية الحفاظ على العلاقات طبيعية، أو محاصرتها في حدها الأدنى المقدور عليه، كحل مفضل على تدميرها نهائيا.

“الموت في عشرة أو في الجماعة نزاهة”، للتعبير عن الشجاعة والتضامن للتصدي الجماعي للأزمة، نفس المعنى في المثل “الجماعة تغلب السبع”. ثم مثلا “الحضا يغلب لقضا”، أي توخي الحذر قبل حلول الأزمات. ثم المثل “إذا جرا عليك البخيل عند الكريم تبات” بمعنى اللجوء إلى أهل الكرم والنخوة الاجتماعية لقضاء الحاجة. ثم مقولة أو وصية “إذا طلعت الموجة هبط تحتها”، عن كيفية تجنب الضغوطات والمواجهات القوية.

خلاصة هذه الأمثال التي أوردتها على سبيل المثال وليس الحصر، أنها تمثل تواصلا شعبيا يتأرجح استعماله ما بين التلويح بالتهديد كسلاح تواصلي لصد فاعل الأزمة أو مسببها، وما بين عناصر قوة المواجهة سواء في اللجوء إلى أطراف قوية أخرى أو التحصن بالذات الجماعية الثقافية المتضامنة.

هذه الأمثال هي بمثابة مبادئ تدبير أزمات، تتجسد في خطاب شعبي ذا معنى خطابي عميق. هي محتوى تولد نتيجة تجارب كثيرة، هي عصارة ذهنية التعامل مع الأزمة. هي تجارب تأثرت بالثقافة والتاريخ والدين والقبيلة والسياسة وغيرها.

هي مبادئ يمكن أن تتحول إلى قواعد لتدبير خطاب وتواصل الأزمات. السؤال المطروح هو كيف يمكن استعمال هذا الرصيد الثقافي الشعبي المتوراث للخروج من أزمة دولة، أزمة جماعية وطنية كبيرة؟ كيف يمكن للمتواصل الرسمي الأساسي أو الفرعي المفوض له أن يشتغل على تحويل هذه المقولات الشعبية إلى مبادئ تواصل، تتحول إلى قوالب للتواصل مع الجمهور المستهدف؟

في التواصل السياسي في المغرب، أظهرت التجربة أن التواصل الشعبي البسيط، الذي يستعمل أسلوب الفرجة و القصة المحبوكة والعقدة والحكي الخطابي الممسرح، ويستعمل أيضا لغة لها دلالات قدسية أو ثقافية اجتماعية أو رمزية وعاطفية في المخيال الجمعي، هو التواصل الناجح الذي يجمع حوله الجماهير، وهو الذي يستطيع إيصال الرسالة بسلاسة.

لذلك فالنماذج التواصلية المستوردة ليست لها نفس فعالية الخطاب الذي أنشأته الجماعة والذي وإن كان مبعثرا إلا أنه متماسك وقوي التأثير، فهو يستمد قوته من تراكمات العيش المشترك، لأنها نماذج بدون روح مفصولة عن العمق الاجتماعي والثقافي للمتلقي.

لذلك قد يكون من المفيد أن يشكل هذا الموضوع سؤالا بحثيا يتعين على أهل الاختصاص والباحثين، حسب الحقول المعرفية المعنية، الاشتغال عليه لإنتاج دراسات من شأنها أن تساعد على بناء نماذج نظرية مغربية للتواصل الاستراتيجي، مستوحاة من تاريخ البلاد ومن عناصر الاجتماع الثقافي المغربي، لأن التواصل الجيد من شأنه أن يحافظ على الوحدة، ويساهم في التحكم في إدارة آثار الأزمات بشكل فعال.

* باحث في العلوم السياسية بكلية الحقوق أكدال الرباط.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

1 تعليق
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
ادريس
المعلق(ة)
17 مايو 2020 02:01

مجرد سؤال ، هل لكاتب هذا المقال مجال معين للبحث ، ام صفته كباحث تخول له البحث والكتابة في اي موضوع كان. ان مواضيع مقالاته متباينة وغير منسجمة وليس لها خيط ناظم بينها. فثارة يكتب في القانون ومرة أخرى يختار مقالات في مجال التواصل. وهذا الامر يجعل ، حسب اعتقادي، مقالاته اقرب الى السرد والحكي عوض البحث والدرس اللذان يؤديان الى استنتاجات بقيمة مضافة.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x