لماذا وإلى أين ؟

إعادة الحياة

أمير تاج السر

لم تكن أخبارا بعيدة أو غير متوقعة أن تعلن كثير من الدول الأجنبية والعربية عن عودتها إلى الحياة الطبيعية، بداية هذا الأسبوع، بعد حوالي شهرين ونصف من التوقف القسري لكل الأنشطة الإنسانية المعروفة فيها، من تجارة وصناعة وثقافة ورياضة، وأشياء أخرى عديدة، كان يمارسها الإنسان بعادية مطلقة ولم يكن يدري أنها ستتوقف في يوم من الأيام، مثل المصافحة والتقبيل، وإحياء الولائم، وتأدية الصلوات في المساجد، وحتى الاجتماعات اليومية للشركات والمؤسسات.

باختصار، فقد أجبر وباء كورونا الذي انطلق من منطقة ووهان في الصين نهاية العام الماضي، وعربد في الدنيا كلها بسبب توفر إمكانية السفر والسياحة، أجبر الحياة على التوقف من دون أي تفكير، أجبر الاقتصاد على التراجع والبطالة على الزيادة، والشجن أن يصبح أغنية الناس كلهم، في أي مكان.

الوباء لم يندحر بعد، ولا توجد أي إرهاصات عن قرب اندحاره، ونقرأ يوميا في نشرات وزارات الصحة المختلفة عن عدد الحالات المصابة، والوفيات، وتبدو أرقاما مزعجة لا تزال، بينما أرقام الذين تم شفاؤهم تبدو خجولة وبسيطة، وتدعو إلى الرثاء.

وفي بلاد مثل السودان ومصر، حيث الحياة الاجتماعية هي أساس البقاء، ولا يستقيم الأمر من دون مجاملات وزيارات وتحايا، وحضور أعراس وعزاءات، ستستغرق إقامة الفيروس في رأيي زمنا طويلا قبل أن يخمد، ولعله لا يخمد، ويصبح رفيقا للحياة المستقبلية. علينا تقبله كمحتل للبهجة، أو نصف البهجة، والحياة هكذا مراقبين جنونه واحتمال فتكه بنا في أي لحظة، وربما يعامل معاملة الانفلونزا العادية، التي نراها يوميا، ولا تثير أي مشاعر للقلق.

وبالرغم من أن الحكومات بذلت مجهودات خارقة، وأكبر من إمكانياتها، واشتعلت حملات تدعو للبقاء في البيوت في الفترة الماضية، إلا أن الالتزام كان محدودا. كثيرون تفهوا من شأن إرشادات التوعية، كثيرون شككوا حتى في وجود قاتل أرعن متربص بهم، وكثيرون كانوا يعرفون العواقب ولكن يخوضون في عدم الالتزام، مراعاة لما يظنون أنها تقاليد سمحة، أن تظل اجتماعيا ومجاملا ومشاركا في السراء والضراء.

والذي يشهد مثلا صلاة العيد في أحد أحياء الخرطوم، وما فيها من زحام، واختلاط فج، بالرغم من أن الحكومة دعت رسميا إلى الاكتفاء بالتكبير والتهليل في البيوت، حفاظا على الشعائر، لن يندهش إن حدث وبات كورونا جزءا أصيلا من أسى الحياة القادمة في تلك الأماكن.

بلاد أخرى التزمت بالعزل المنزلي، إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وأمريكا، وبالرغم من ذلك، ظل الفيروس يعربد فيها، وظلت الإصابات يوميا بأرقام فادحة، والوفيات أيضا عظيمة. وتستطيع تخيل آلاف العزاءات في آلاف البيوت، حيث سرق الموت فردا عزيزا، أبا أو أخا أو زوجة، أو إبنا كان يطمح في مستقبل باهر.

تلك الدول نفسها تدعو الآن لتخفيف القيود، لفتح بوابات الاقتصاد من جديد، للسماح بالبيع والشراء الذي كان مقتصرا على الأكل والشرب فقط، في الأشهر الماضية، وقد فكرت كثيرا في تلك الإجراءات التي تبدو خطيرة بالفعل، وكانت ستكون خطيرة أيضا، حتى لو أن الفيروس انتهى، حيث يمكن أن تؤدي إلى عودته من جديد، فما بالك والفيروس يعربد ما يزال. يقولون: خف المرض، لكنه كلام نظري، نسمع به ونرى عكسه، تماما مثلما نسمع باكتشاف علاج، ولا نرى علاجا، بالتوصل للقاح يقي غير المصابين، ولا نرى لقاحا طبق عمليا واستفاد منه أحد.

لنفترض أن الأسواق تم فتحها والمواصلات العامة، تمت إعادة تشغيلها، والمطارات امتلأت بإغواءات السفر، مالذي سيطرد الهواجس الإنسانية، التي قد تمنع مشتريا من الشراء، وراكبا من استقلال المترو أو الباص، ومسافرا من التواجد في مطار ما حاملا حقيبة وتذكرة؟

قلت من قبل، إن عودة الحياة بالتدريج ليست مشكلة بالرغم من خطورة قرار كهذا، حيث يمكننا أن نعود بحذر لنمارس الرياضة، ونتعلم ونجتمع، ونكتب القصة والشعر وننشر. لكن ما عشش من هواجس، في النفوس، هو الذي تصعب السيطرة عليه، الكمامة لن تمنع الفوبيا والهلع أو البانيك، وغسل اليدين لن يزيل كابوسا ضخما من داخل النفس أبدا.

أشخاص كثيرون شاهدتهم يبدون فرحين بقرب عودة الحياة، أو عودتها فعلا في دول كانت صارمة في حظرها وإغلاقها، لكنه فرح صوري، فرح ظاهري، مدهون كطبقة رقيقة على هواجس داخلية قاتمة. معظم هؤلاء الذين يبتسمون أمام الكاميرات في قبرص ومدريد وروما، قد يعودون إلى بيوتهم مسرعين من دون أن يكملوا رياضتهم المفضلة، أو يتسوقوا بمرح كما كان يحدث في عالم ما قبل كوفيد-19.

ولا ننسى أن التجارة والاقتصاد اللذين أعيدت من أجلهما الحياة بكل تأكيد، لن يستفيدا كثيرا، لا في بداية الفتح، ولا لفترة طويلة بعده، ونعلم عن تقليص الوظائف وتسريح العمالة، في مرافق كثيرة كانت حيوية ذات يوم، مثل مرفق السياحة، وقضى كوفيد-19 على حيويتها.

عموما نتابع عودة الحياة بحذر، ونتابع نشاط الفيروس وأفعاله في الدنيا بيقظة، وكل الأمنيات أن يحدث شيء، طفرة ما، تغير من مسار التوتر، وتفتح طاقة للأمل. وكنت شاهدت مؤتمرا صحافيا لعلماء سودانيين، تحدثوا عن استخدام الأوزون كعلاج ووقاية في الوقت نفسه، وكان حديثا مطمئنا، ويبدو صادقا، وأقرب إلى المنطق عن كل ما قيل في موضوع علاج كورونا، لكن لم أر من يؤيد بعد؟ ولعل الأمر بحاجة لدراسة أكثر.

كاتب سوداني

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x