لماذا وإلى أين ؟

عن الساسة الغافلين الراقصين على البركان

مالك التريكي

من كريم المصادفات أن نعي الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي تغمده الله بواسع رحمته قد تزامن، يوم 29 أيار/مايو، مع بث إحدى الإذاعات الفرنسية برنامجا وثائقيا قديما عن الزعيم المهدي بن بركة. مصادفة لا تفسير لها إلا ما لاحظه الجمهور من أن القنوات الإذاعية والتلفزية قد اضطرت، بسبب أوامر الحجر التي عطلت قدرتها على الإنتاج، إلى إعادة بث مواد وبرامج من المخزون. إلا أنه قد كان في المصادفة من الموافقة والتوفيق ما جعلها تبدو كأنها رسالة مقصودة. رسالة بليغة الدلالة على صدق ما كان بين الرجلين الشريفين من رفقة الدرب النضالي ووحدة الأرومة الوطنية.

أتى نبأ الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي بعد أسبوعين فقط من الأستاذ الشاذلي القليبي، فتجدد ألم الشعور بتساقط الحبات الأخيرة من عنقود نخبة الكفاح والبناء الوطني في المغرب العربي، وتجدد شقاء الوعي بعظم الفارق بين نخبة الأمس التي لم يكد يبقى منها أحد وبين نخبة اليوم التي تكاد تسد الأفق بكثرة العدد. أتى النبأ، فتجلّت مقولة عبد الله العروي لامعة جارحة كالنصل: في كتابه الأخير، «استبانة»، قال المؤرخ والمفكر الفذ إن الطبقة الحاكمة الحالية في المغرب أقل وطنية من سالفتها. والوطنية، في تعريفه، شعور وسلوك وتطلع. الشعور هو الاعتزاز بالذات والأجداد. والسلوك هو الإيثار والتضحية. والتطلع هو طلب الحرية والتقدم والرفاهية. بهذا التصور، تكون الطبقة السياسية اليوم «أقل وطنية (..) لا أعني أقل غيرة على مصلحة الوطن أو أقل تعلقا برفاهية الشعب، لكنها إما جاهلة وإما رافضة للتصور الذي حددناه».

ولا شك عندي أن حكم العروي ينطبق على الطبقة السياسية في تونس انطباقه على الطبقة السياسية في المغرب. إذ يمكن القول، بتكييف طفيف لهذا الحكم، إن النخبة السياسية في تونس اليوم أقل وطنية من الطبقة التي حكمت في العقود الثلاثة الأولى من دولة الاستقلال، من عام 1956 إلى 1986.

أقل وطنية، ليس بمعنى الشعور ولا بمعنى التطلع. فالجميع شاعر بالاعتزاز بالذات الجماعية، والجميع متطلع إلى مستقبل وطني قوامه الحرية السياسية والتقدم الاجتماعي والرفاهية الاقتصادية. ولكن دلالات هذين المقوّمين، أي الشعور والتطلع، لم تعد محل إجماع. ذلك أن مسألة الاعتزاز قد أصبحت رهينة إشكالية لم تكن موجودة من قبل، هي إشكالية الهوية. بحيث أن من يعتز بالذات لا يعتز بالضرورة بالأجداد، وأن من يرى أن هذه الذات جوهر قطري صغير متمايز عما سواه جغرافيا وتاريخيا لا يتفق مع من يرى أنها عنصر تكويني في صلب ذات أوسع هي الشخصية العربية أو الأمة الإسلامية.

كما أن التطلع إلى مستقبل أفضل، بمعنى الغيرة على المصلحة الوطنية، لا يحظى بإجماع إلا من حيث الإطار العام. أما في الجوهر، فإن من يولي الأولوية للتقدم الاجتماعي والرفاهية الاقتصادية قد يكون مستعدا للتضحية بالحرية السياسية. وقد كان هذا بالضبط هو منطق حكام العقود الثلاثة الأولى من دولة الاستقلال، أي منطق التنمية والتقدم عن طريق العمل على التحرر من ثالوث الجهل والفقر والمرض. وقد تحول منطق التنمية هذا، الذي كان أكبر قاسم مشترك بين دول العالم الثالث بعد تحررها من الاستعمار الأوروبي، إلى إيديولوجيا تبريرية للاستبداد الذي نشأت في كنفه أسوأ أشكال الكذب والزور والنفاق. كما أن من يولي الأولوية للحرية السياسية قد ينتهي به الأمر إلى العجز عن تحقيق أي شيء آخر. وهذا بالضبط هو وضع الطبقة السياسية الحالية التي غنمت من الثورة الشعبية غنيمة الحرية فغرقت وأغرقت البلاد معها في طوفان من تناسل الأحزاب وتكرر الانتخاب تلو الانتخاب واستمرار السقوط المدوي في مشهد برلماني عبثي لا يرى منه المواطنون إلا التهريج والصراخ والسباب.

لهذا يصح القول، بالمقارنة مع نخبة الجيل الأول من دولة الاستقلال، إن النخبة السياسية اليوم أقل وطنية. ولكن ليس بمعنى الشعور ولا بمعنى التطلع، وإنما بمعنى السلوك. إذ لا وجود في سلوك من تعاقبوا على الحكم والمعارضة منذ 2011 لأدنى دليل من أدلة التضحية والإيثار. بل إن العكس هو الحاصل. فقد صارت الغرائز البدائية، أي الأثرة (نقيض الإيثار) والأنانية (نقيض التضحية) والمصلحة الشخصية والحزبية (نقيض الصالح العام)، هي الحتميات المتحكمة في سلوك السياسيين إلى أن افتضح أمرهم لدى عموم الناس فلم يعد يصدقهم أحد ولا يحترمهم أحد.

الأدهى أنه لم يعد يمكن لأيّ كان، حتى لو كان ممن يسمون بالخبراء، أن يفهم فيم يتنافس المتنافسون ولا علام يتخاصم المتخاصمون.

البلاد على شفا الهاوية، فعلا لا مجازا، وساسة الوطنية المنقوصة غافلون. الكارثة محدقة والبركان يغلي والقوم حول فوهة البركان يتراقصون.

كاتب تونسي

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

1 تعليق
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
احمد
المعلق(ة)
7 يونيو 2020 21:59

الاخوان المسلمون فيما بينهم يفكرون بعقلية معينة ولن يغيروها لانهم ادوات وينتهون دائما بخراب اوطانهم او اوطان الغير.
منذ مدة وانا اعتقد ان المواجهة معهم حتمية.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x