2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
الرباط في الزمان والمكان ومراحل تطور العمران 1150 – 1912 (3)
مختصر كتاب: “مدينة الرباط في القرن التاسع عشر (1818 – 1912)، جوانب من الحياة الاجتماعية والاقتصادية”، لمؤلفه: د. عبد العزيز الخمليشي.
أصل هذا البحث أطروحة جامعية قدمت للمناقشة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط يوم 11 يوليو 2007، ونال بها المؤلف دكتوراه الدولة في التاريخ بميزة حسن جدا.
قام بتلخيصه، محمد المختار جزوليت*
3 عوامل التدهور:
يقول ابن خلدون عن أسباب خراب المدينة المغربية خصوصا – والإسلامية عموما – في العصر الوسيط: “… فعمر الدولة حينئذ عُمْرٌ لها، فإن كان عمر الدولة قصيرا وقف الحال فيها عند انتهاء الدولة وتراجع عمرانها وخربت. وإن كان أمد الدولة طويلا ومدتها منفسحة فلاتزال المصانع فيها تشاد، والمنازل الرحيبة تكثر وتتعدد…”.
من هنا يمكن تسجيل أن الدولة الموحدية، مباشرة إثر وفاة المنصور، كانت قد استكملت طور التأسيس والبناء وكذا طور العظمة والمجد، وتهيأت للدخول في طور الهرم والاضمحلال، إذ لم تمر سوى حوالي 13 سنة على وفاة المنصور، وبالضبط عام 1212م حتى وقعت معركة العُقاب التي انهزم فيها الجيش الموحدي أمام الإسبان وانعكس ذلك على مدينة الرباط التي فقدت (الأساس) الذي كان وراء تأسيسها، أي مقرا لتجمع الجيوش قبل توجهها إلى الأندلس لمباشرة الجهاد.
ويبدو أن الخليفة الموحدي الرشيد (1232 – 1242) حاول تعمير المدينة بعناصر جديدة أملا منه في أن تسترد بعض عافيتها من خلال تقديم عدد من الامتيازات لأهل المدن التي سقطت في يد المسيحيين، وذلك بإصدار الظهير المؤرخ في 21 شعبان 637هـ / 17 مارس 1240م.
فقد خولهم:
– حق سكنى الرباط وتعميرها؛
– حق التوسع في الحرث والغرس وتملك الأملاك؛
– أعفاهم من كل المغارم غير الشرعية؛
– تعهد بحمايتهم والاعتناء بخواصهم.
غير أن ما يجب إثارة الانتباه إليه، في الوقت ذاته أن تاريخ صدور هذا الظهير تزامن مع فترة حرجة من تاريخ الدولة الموحدية: يتعلق الأمر ببداية انهيار سلطتها على حساب صعود سلطة بني مرين، إذ في العام 1249 تمكن المرينيون، للمرة الأولى، من الاستيلاء على مدينتي الرباط وسلا، ليستمر الصراع على أشده إلى حدود سنة 1259م تاريخ الاستيلاء عليهما من قبل المرينيين. ومعنى هذا أن هذه الصراعات حالت دون توفير المناخ الملائم لاستقرار أولئك المهاجرين بالوفرة التي من شأنها أن تعمل على تعمير المدينة.
وبعد أن اتخذ المرينيون فاس عاصمة لهم همشوا مراكش وكذلك الرباط وجعلوا من سلا مقرا لهم أثناء عبورهم إلى الأندلس واهتموا بشالة التي أحاطوها بالسور، واتخذوا منها زاوية ومقبرة فاخرة لسلاطينهم ولزوجاتهم ولأعيانهم. ولم تتجاوز منجزاتهم بالرباط أصابع اليد:
– إيصال الماء من عين غبولة من جديد عام 1285م؛
– بناء المسجد الأعظم – أو الجامع الكبير – ويجهل تاريخ بنائه؛
– بناء مارستان وسقاية قبالته؛
– ثم حمام جديد – المسمى بحمام لعلو.
أما بالنسبة للوطاسيين فلم يخلفوا أي شيء يذكر في الرباط.
والشيء نفسه يقال بالنسبة لفترة حكم السعديين الذين اتخذوا مراكش عاصمة لهم وآسفي وأكادير منفذين بحريين لتجارتهم.
إلا أنه مع تدفق آخر أفواج الأندلسيين المطرودين من إسبانيا في بداية القرن 17، وهو الحدث الذي ترافق مع بداية انهيار سلطة السعديين، عرفت الرباط مرحلة جديدة في تاريخها.
الحلقة2
المرحلة الثانية: من مدينة مستقلة تمارس الجهاد في البحر إلى عاصمة ثانوية من عواصم البلاد.
1- الرباط مدينة الجهاد البحري:
أ- أهل هورناتشوش وباقي الأندلسيين وغيرهم من القوى السياسية والصراعات الداخلية:
بمقتضى القرار الصادر عن الملك فيليب الثالث (1598 – 1621) بتاريخ 3 دجنبر 1609 والذي يقضي بطرد آخر ما تبقى من المورسكيين بشبه الجزيرة الإيبيرية، احتضنت الرباط فرقتين من هؤلاء النازحين:
1. الفرقة الأولى وتسمى بهورناتشوش، نسبة إلى القرية التي هاجروا منها، وقد استقرت في القصبة (أي قصبة الأوداية حاليا) وذلك بدعم من مولاي زيدان حاكم مملكة مراكش، بهدف تعميرها وحراستها، وقد قدر عدد هاته الفرقة بين 2000 و3000 مهاجر.
وتتميز هذه الفرقة بمحافظتها على عقيدتها الإسلامية ولغتها العربية وروحها النضالية كما أنها راكمت ثروات مهمة قبل هجرتها، وكانت تتدبر أمورها بواسطة مجلس يوكل إليه اتخاذ القرارات.
كل هذا جعل منها مجموعة متماسكة، حتى إذا استقرت هذه الفرقة في القصبة،شبه الفارغة، أصبحت بسهولة سيدتها، وبالتالي سيدة الجهاد البحري.
2. أما الفرقة الثانية فهي مجموع الأندلسيين المتفرقين في المدن، والذين دعتهم الفرقة الأولى للحاق بها في الرباط، وجعلتهم يستقرون بجوارها، خارج القصبة. وقد قدر عدد هؤلاء بين 5000 و6000 مهاجر.
وقد كانت مدينة الرباط حين حلوا بها في حالة يرثى لها، قليلة السكان، لا يرى داخل أسوارها سوى البساتين وحقول البقول والشعير.
وقد نظم هؤلاء وأولئك في المرحلة الأولى حركة الجهاد البحري بمرسى الرباط وحصلوا على مداخيل كبيرة جدا.
وبوفاة المولى زيدان 1627م شق الهرناتشيون عصا الطاعة على السلطة السعدية المنهارة وأعلنوا استقلال مدينتهم – التي هي القصبة – عن كل وصاية، واحتكروا السلطة ومداخيل الجهاد دون باقي الأندلسيين المقيمين داخل أسوار الرباط.
وبذلك قامت الحرب بين الطرفين وكانت تعرف المد والجزر بين الطرفين وتعرف فترات استقرار وفترات اضطراب، كما عرفت تدخل أطراف عديدة، كالعياشي من سلا، والديلائيين، والإنجليز …
وقد نشطت حركة الجهاد البحري أيما نشاط في الفترة الممتدة بين عام 1641 إلى عام 1660.
إلا أن استقلال القصبة وما يليها عن السلطة المركزية سينتهي، إذ في شهر يونيو 1666 تمكن المولى الرشيد (1664 – 1672م) من الاستيلاء على المدينة دون أي مقاومة، وتم إشراك جميع أصحاب الخبرات من أهل العدوتين ]سلا الجديدة (الرباط) وسلا القديمة[، كمجاهدين تحت إشراف ومراقبة المخزن.
ب- المنجزات العمرانية (1609 – 1727م):
تبقى النصوص في هذا الموضوع شحيحة إلا من بعض الإشارات كما في النص التالي (وكان هذا الثغر ]الرباط[ قبل دخول هذه الجماعة له وسكنها فيه غاية الإهمال فبالغوا في تشييده وتحصينه وبناء مساجده و أسواقه حتى صار حاضرة من الحواضر، وصار الناس يأتون إليه من كل ناحية). بيد أن أهم معلمة أنجزت من قبل الأندلسيين، والتي ماتزال قائمة إلى الآن هي السور المشيد جنوب المدينة على طول 1400م، الممتد من باب الحد (الأحد) إلى حدود الوادي (حيث ينتصب برج سيدي مخلوف) والذي كانت تخترقه باب شالة في المرحلة 1، ثم فيما بعد باب الجديد وباب البويبة. إنه السور المسمى بالسور الأندلسي.
وعلى هذا الأساس أصبحت مساحة المدينة الواقعة داخل هذا السور تمتد على مسافة 91 هكتارا – بما في ذلك القصبة ومقبرة لعلو – من ضمن 418 هكتارا، وهو مجموع المساحة الممتدة داخل السور الموحدي.
ومعنى هذا أن المساحة الفارغة المتبقاة هي 327 هكتارا، ظلت عبارة عن بساتين وحقول – تقوم بتزويد المدينة ببعض حاجياتها من المواد الفلاحية – وهي بدورها محروسة بالسور الموحدي من هجوم قبيلة زعير.
ونضيف هنا ما تم إنجازه في عهد السلطان المولى الرشيد (1664 – 1672م) وأخيه المولى إسماعيل (1972 – 1727م) بمدينة الرباط.
لقد اهتم المولى الرشيد بالقصبة لدورها الإستراتيجي، في عملية الجهاد البحري، ومن جملة ما قام به: “توسيع نطاق القصبة والزيادة في سورها … ثم جعل في حده برجين”، مازالا قائمين إلى الآن.كما قام بتشييد قصبة جديدة، مجاورة للقصبة الموحدية.
وما عداه من البناء الموجود داخل الجزء الملحق بهذه القصبة: أي دار إقامة خليفة السلطان والمسجد والحمام فهي من منشآت المولى إسماعيل.
كما نسجل في هذا الصدد أن المولى إسماعيل وجه عنايته أولا إلى إعادة إصلاح عين البركة التي كانت تزود سلا ومسجدها الأعظم بالماء، وذلك على الأقل منذ عام 1701م وكان وصول الماء سنة 1712م إلى المدينة.
وفي هذه الأثناء كانت الأشغال جارية كذلك لتزويد الرباط ومساجدها بالماء من عين أخرى هي عين عتيق التي تبعد عن المدينة بـ 18 كلم، ولم يتم ذلك إلا في 20 نونبر 1722م.
بوفاة المولى إسماعيل دخلت البلاد في أزمة سياسية وعسكرية استمرت ثلاثين سنة (1727 – 1757م) لم تنج الرباط من انعكاساتها، حيث استعادت لبعض الوقت – إلى جانب مدن أخرى – استقلالها السابق.
إلا أن الأمير سيدي محمد بن عبد الله في سنة 1755 قرر اقتحام العدوتين، فاستسلم أهل سلا وتبعهم أهل الرباط وفتحوا الأبواب إلا أنه لما طلب منهم إرجاع مال المرسي، قالوا له (بنينا به السور)، فأي سور يقصدون؟
هنا يشير الكاتب إلى أنه لما كانت مدينة الرباط، ابتداء من القرن 18 تتوفر على ثلاثة أسوار، أولها السور الموحدي، وثانيها السور الأندلسي، فلم يبق، إذن، سوى السور الثالث المسمى بالسور الخارجي البراني (1752 – 1755).
وفيما يخص موضع وامتداد هذا السور فقد كان ينطلق من نقطة تبعد عن البحر بـ 1740م من الجنوب الغربي لبرج الصراط ويمتد نحو الجنوب الشرقي، ثم ينعطف إلى أن يتصل بسور الموحدين، من جهة باب الرواح، ومعنى هذا أنه كان ينقسم إلى شقين: يبلغ طول أحدهما 3200م ويصل إلى أكدال عبر شارع لقبيبات وشارع الحسن الثاني وشارع النصر إلى باب مراكش (خلف حديقة التجارب) والشق الثاني يتصل بالسور الموحدي ويبلغ طوله 1100م وكانت تخترقه أربعة أبواب: باب لقبيبات، وباب تماسنا (أو باب تمارة) وباب العذير (أو باب مراكش) وباب المصلى.
ولقد بني هذا السور الأندلسي الثاني – الذي اندثرت معالمه، بهدف حماية السواني والأراضي الزراعية التي كانت تقع خارج السور الموحدي خصوصا وأن العلاقات مع زعير لم تكن دائما مفروشة بالورود.
وبانتهاء أزمة الثلاثين سنة واستتباب الأمور للسلطان سيدي محمد بن عبد الله (1757 – 1790) انتقلت لتصبح عاصمة من بين العواصم السلطانية إلى جانب فاس ومراكش ومكناس.
يتبع…
*أستاذ اللغة العربية وآدابها؛ حاصل على الاجازة في اللغة العربية وآدابها؛ حاصل على دبلوم الدراسات المعمقة في الأدب القديم.؛ من مواليد الرباط سنة 1956