تفوح رائحة الموروث الثقافي الذي تكتنزه رمال الصحراء المغربية من بيوت أهلها، كلما أرخت ليالي رمضان سدولها على هاته الأراضي الزاخرة بتراث البيظان.
ألعاب شعبية وتقاليد وطقوس خاصة توارثتها أجيال من الصحراويين جيلا بعد جيل، تكشف عمق وتنوع الحضارة التي تزخر بها بلادنا، ما يجعل الزائر للجنوب المغربي يغوص في رحاب أجواء الحاضر التي تعود به إلى كنف الأجداد.
واختارت الجريدة الإلكترونية “آشكاين” أن تبسط سلسلة رمضانية لمجموعة من هذه التقاليد الصحراوية العتيقة التي تختزنها الأقاليم الجنوبية والتي يتميز بها شهر رمضان بالخصوص، من خلال حلقات برنامج “عادات صحراوية رمضانية”.
وسنتطرق في الحلقة الثالثة عشر من سلسة “عادات صحراوية رمضانية”، إلى إحدى الأكلات الشعبية التي كانت متجذرة بشكل كبير في طقوس وعادات البدو، إلا أن التمدن والتحضر قلص منها إن لم نقل لم يبق لها أثرا، وهي عادة غذائية جماعية خاصة بالنساء، وتعرف باسم: وَنـْــكَـالَة.
نبذة عن وَنـْــكَـالَة وطريقة تحضيرها
وأوضحت الشاعرة خديجة لعبيد، رئيسة جمعية الساقية الحمراء النسائية للتبراع، أن الونكالة “هي عادة كانت النساء تقمن بها إلى غاية تسعينات القرن الماضي، وهي أن تجتمع مجموعة نساء ويطهون جديا بطريقة خاصة بغرض “البلوح” (التسمين) الجماعي”.
وأشارت الشاعرة لعبيدي، أن “النسوة تجتمعن ويقمن بطهي جدي صغير في السن، في الماء فقط، إلى أن يعتدل بشكل كامل، ثم يأتين بالدهن(الدسم) واللبن ويجتمعن في أحد الخيام، ويتناولن هذه المكونات مع اللحم، وإن كان عدد النساء كبير يتم تحضير أكثر من جدي”.
وبينت رئيسة جمعية الساقية الحمراء النسائية للتبراع، الشاعرة خديجة لعبيدي، أنه “بعد طهي الجدي يتم إفراغ لحمه كاملا بعد فصله عن عظامه في قصعة كبيرة، ويتم سكب الدهن والمرق الذي طُهي فيه اللحم، وتخلط المكونات جميعها إلى أن تمتزج ببعضها بشكل كلي”.
وأضافت لعبيدي، في حديثها لـ”آشكاين”، أن “الونكالة فرصة للقاء النسوة ببعضهن وتداول الأخبار”، مشيرة إلى أن “من النسوة من يقمن بهذه العادة أكثر من مرة، وعلى الأقل تكون ثلاث مرات”.
حكمها الشرعي
وكانت ونكالة قد جرت الكثير من اللغط حول حكمها الشرعي في الدين، إذ نقل الباحث في التراث اللامادي الحساني، الدكتور بوزيد الغلى، أن “سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم العلامة الموريتاني المشهور، عرف الونكالة في مقالة له بعنوان “تحرير المقالة في تحريم الونكالة”، نقلا عن المختار بلعمش العلامة العلوي المشهور صاحب “النوازل”، قائلا: “فأما خلط الطعام بين الجارين والمسافرين وجعله نُوَباً بينهم كل واحد بنوبته، فهو جائز إذا قصدوا بظلك الرفق والتودد، وقال خليل ووُسّع أن يأتي بطعام كغيره”.
في المقابل، يضيف الدكتور الغلى، مستعرضا وجهات نظر الفقهاء في الموضوع، أن “العلامة سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم يرى عكس ذلك ويقول أنها حرام، إذ يقول إنه علم مما قيل أن ونكالة حرام إذ المقصود فيها المعاوضة (استيدال الطعام بنظيره) لأن من لم تفعل من النساء مثل ما فعلت من قبلها وأكثر، عيبتها النساء أشد العيب ومزقن عرضها وربما مزقن زوجها، فأي معاوضة بعد هذا”.
واسترسل محدثنا ساردا قول العلامة سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم، بأنه “بالنظر إلى عوارضها الملازمة لها من الغيبة والنميمة وشتم بعضهن البعض والتفاخر والتكاثر، فهو أمر لا يوصف ووسيلة الحرام إلى الحرام، فتجويز المختار بلعمش لها مستدلا بفعل الصحاب لها لا دليل عليه، لتباعد مقصدهم عن مقصده، وكذلك في استدلاله من كلام خليل في القراض”.
في مقابل ذلك، لفت الباحث في التراث اللامادي الحساني، الدكتور بوزيد لغلى أن “موقف إحلال عادة ونكالة انتصر له كذلك الشيخ محمد المامي” وأجازها.
طعام هوياتي
وبعيدا عن الشرع، أكد الباحث في التراث اللامادي نفسه، في حديثه لـ”آشكاين”، “أن “عادة ونكالة تدخل في ما يسميه بعض الأنثروبولوجيين بـ”هوية الطعام”، باعتبار الطعام يكتسي هوية ثقافية، وهذه الهوية تنتج عن تحويل الأغذية من حالتها الخام إلى وضعية متحضرة أو ثقافية، وذلك باستخدام تقنيات مختلفة مثل التجفيف والتمليح والطهي بأنواعه، وهذا كله متوافر في ونكالة”.
ويرى الدكتور بوزيد الغلى أنه “إذا كان بعض الأنثروبولوجين يرون أن الكسكس هو طعام هوياتي في شمال إفريقيا، فإن ونكالة هي عادة غذائية هوياتية عند البيظان عموما، سواء في موريتانيا أو في المغرب”.
أحمد الهيبة صمداني – آشكاين
الحلقات السابقة: من هنا
