لماذا وإلى أين ؟

عن المغرب وإسبانيا والآخرين: خلافٌ إقليمي أم تحولٌ جيوستراتيجي؟

صلاح الوديع

بعيدا عن كل تشنج “وطني” مبالغ فيه، يهمُّني كمغربي، أن أقرأ الأزمة الحالية مع دولة إسبانيا من منظار آخر. ليس من منظار اللحظة السياسية المباشرة فقط، وما تعنيه وما تخفيه، بل أساسا من زاوية الزمن التاريخي الطويل. ففي رأيي لا يمكن إدراك بعض أوجه هذه الأزمة إلا من هذه الزاوية الجامعة، أو ما يقترب منها.

وبدءا أقول أنني بقدر ما أنا أمميّ فإنني وطنيٌّ بلا تردد.
بقدر ما أنا ممتلئ بوعي الشرط الإنساني الذي يسكن كل آدمي فوق هذه الأرض، بقدر ما أنا متشبث بهذا الوطن، بهذه الأرض، بهذه السماء، وبكل أهلها الطيبين. بكل تاريخها، القريب والبعيد، وبكل أبعاد مستقبلها. بل أعتبر نفسي مسؤولا في حدود إمكانياتي عنه. مفرقا في ذلك بين الوطن وبين ما يمكن أؤاخذ عليه هذا المسؤول أو ذاك مهما علت درجته.

فليس الوطن مجرد مسقط رأس أو مسكن أو مأوى أو مجال لتنمية قدرات ذاتية وبناء مسار. الوطن هذا كله وأكثر. الوطن نقطة الكون التي إليها أنتمي ومنها أنطلق. من مائها ارتويت ومن قمحها شبعت وبلغاتها سميت الأشياء. إنه الجبل والشجر والماء والتراب والأهل الطيبون…
أمر الآن إلى الآخرين…
من هي إسبانيا التي توتَّرتْ معها علاقتنا الدبلوماسية مؤخرا إلى الحدود غير المسبوقة التي نعرف اليوم؟
قبل أن أشير إلى إسبانيا اليوم، لا بد أن أسترجع إسبانيا البارحة.

انتمت إسبانيا، ولا تزال، إلى ما نطلق عليه “الغرب” عموما. وإذا كان مقالٌ مثلُ هذا لا يكفي للإحاطة بالمفهوم في شموليته وتمثلاته وتقلباته التاريخية، فلنقل بأنه يضم دول غرب أوروبا (وشرقها نسبيا) إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في آسيا وأستراليا.

هذا الغرب يعتقد منذ خمسة قرون، أي منذ نهاية الوجود العربي الإسلامي ككيان سياسي في شبه القارة الأيبيرية ووصول أوروبا إلى (ولا أقول اكتشافها) القارة الأمريكية، وانطلاق موجةِ النهضة في القرن 16، يعتقد بأنه وُجد لحُكم العالم بدون منازع. ويرى أن هيمنته على هذا العالم مسألة تنتمي إلى “طبيعة الأشياء”، حتى أصبح الأمر جزءا من ثقافة شائعة راسخة، مفروغ منها، ليس لدى الغرب فقط بل خارجه كذلك.

الكلُّ يعرف كمْ من ملايين الأرواح البشرية أزهقت من أجل تشييد صروح هيمنة الغرب: من طرد المورسكيين من إسبانيا الكاثوليكية، إلى تجارة العبيد السيئة الذكر التي دعمها حتى بعض كبار فلاسفة الأنوار، إلى تأسيس نظريات التفوق العرقي بما في ذلك إنكار وجود روح لدى أفراد الشعوب المستعمرة من أجل تصفية كل مقاومة بين صفوفها والتصرف في خيراتها، إلى الاكتساح الاستعماري لإفريقيا ثم آسيا في القرنين التاسع عشر والعشرين، إلى نظام السطوة والتوسع النازي مرورا بتشتيت منطقة الشرق الأوسط بموجب اتفاقية سايس-بيكو الأنغلوفرنسية عقب الحرب المسماة “العالمية الأولى” (وما هي إلا حرب أوروبية محض من أجل اقتسام العالم)، ومرورا بزرع كيان طائفي في فلسطين هو إسرائيل اليوم، بعد الوعد الكاذب للحكام العرب إذاك بتمكينهم من دولة عربية كبرى عقب أفول الإمبراطورية العثمانية، وصولا إلى تأجيج التطاحن الطائفي في المنطقة معتمدة في ذلك على الأوساط التي تنتمي إلينا وتستند إلى القراءات المتطرفة للموروث الديني الإسلامي…
لن نظلم هذا الغرب. فكل الإمبراطوريات في التاريخ، حتى إمبراطورياتنا، عرفت هذا النزوع. لكن ليس علينا ولا على آخرين القبول بذلك، ولو كان بمبرر كهذا.

نكتفي هاهنا بالتذكير – كما تقول الباحثة التونسية صوفي بسيس في كتابها “الغرب والآخرون” – بأن هيمنة أهم الإمبراطوريات عبر التاريخ كانت على أساس ديني، فيما هيمنة الغرب مبنية ومبررة اليوم بناء على تأصيل عقلي مؤسَّس، له منطقه الدنيوي الصرف بعيدا عن التأويل الديني.

من هذا المنطق نفهم اليوم سياسة أخرى من نفس سياسات هذا الغرب: سياسة الهجرة.
إن إسبانيا ومعها كل أوروبا، تطلب من دول الجنوب، ومن دول الجنوب المتاخم لها، أي نحن، أن نكبح موجات الهجرة أكانت من بين صفوفنا أم واردة من بلدان أخرى، ومن إفريقيا على وجه الخصوص. حفاظا على انسجام وتماسك مجتمعاتها واستقرار دولها ورفاهية أفرادها. هي التي لم تتوصل إلى ضمان التراكم الاقتصادي من أجل ازدهارها وتوفير الفائض الضروري لضمان تلك الرفاهية إلا على حساب شعوب تشردت ومُقدرات نُهبت وبنيات اجتماعية-اقتصادية فُكِّكت لدى هذه الشعوب المضطرة للهجرة اليوم.

تلك الهجرة التي كانت مبرمجةً موضوعيا في مقررات مؤتمر برلين في 1884، سنة انطلاق التوزيع الشرِه والمشينِ لبلدان إفريقيا، وتفكيك مجتمعاتها ونهب خيراتها، بما فيها المغرب… المغرب الذي لم تتردد دولتا فرنسا وإسبانيا، تطبيقا لهذا الحلف المشؤوم، في تقطيع أوصاله وتوزيعه كالغنيمة في مؤتمر الجزيرة الخضراء السيئ الذكر سنة 1906.

ليس القصد هنا أن نضع كل أوزارنا وإخفاقاتنا وعثراتنا على كاهل هذا الغرب. القصد أن نذكر بالسياق التاريخي الطويل حتى نضيف عناصر أخرى إلى فهمنا لما يقع تحت أعيننا اليوم.

هذه “الإسبانيا” تحركت كما تحرك آخرون لأنها ترى في المغرب اليوم لا حليفا لطيفا مذعنا، بل قوة اقتصادية صاعدة في إفريقيا، تنافسها على مجال اعتبرته مُحَفَّظاً كما تحفظ العقارات، كما هو الشأن بالنسبة للمدينتين السليبتين سبتة ومليلية. والمشكل أن المغرب لا ينافسها هي وأضرابها في إفريقيا في المجال الاقتصادي فحسب، بل وفي المجال الروحي كذلك…

نحن كمغاربة مرتاحون لهذا التوجه اليوم في سياسة بلادنا الخارجية، وسنعمل كي يتوطد…
إن ما يخيف إسبانيا في واقع الأمر هو إدراكها بأن توجهاً مثل ما يعبر عنه المغرب اليوم، يعني في العمق بدء تململ الأرض التي تأسست عليها سطوة الغرب، ليس فقط في علاقتها بالمغرب، بل ببلدان أخرى سوف يأتي أوان انتفاضها، وذلك في ظل سياق عالمي لم تعد دول وبلدان وشعوب العالم قادرة فيه على التأقلم مع أسس النظام العالمي كما بناه الغرب على امتداد قرون.

هنا أصل المشكل وصعوبته على من اعتاد منطق الاستعلاء.
ربما على إسبانيا وأمثالها أن يشتغلوا على تصوراتهم وسياساتهم طبقا لتحولات الواقع تحت أعين الجميع. ربما عليهم أن يتعلموا حقا لا مجاملة احترام بلدان تعودوا

على التصرف إزاءها باستعلاء، ربما عليهم أن يعيدوا النظر في طريقة اعتبار مصالحها، أن يتدربوا على التعامل معها بندية واحترام.
قد يكون المغرب تأخر في تغيير “باراديكم” العلاقة التي تجمعه بعدد من هذه البلدان ومنها إسبانيا.
وربما يكون المغرب في هذا التغيير قد ارتكب بعض الأخطاء في تدبير الأزمة مؤخرا فيما عُرف بهجرة القاصرين، أخطاء لا يبررها غضبنا جميعا تجاه ما حصل بسبب استقبال إبراهيم غالي من طرف إسبانيا بالشكل المرتبك الذي تتبعناه لديها دبلوماسيا وسياسيا قضائيا…
قد يكون.
لكن التصرف المغربي فيما يتعلق بالوعي بضرورة تغيير “الباراديكم” هو في عمقه سديدٌ واستشرافي.
يبدو شيئا فشيئا، من خلال الأحداث اليومية المتلاحقة التي رافقت الغضب المغربي، يبدو أن المغرب حين تحرك اليوم فمن جهة من أجل الدفاع عن مصالح مشروعة، ومن جهة أخرى، هي أعمق وأبعد مدى، هي تدخل – ضمنا أو صراحة – في إطار تغيير البراديكم الذي تعودنا عليه، تغيير التصور، تغيير موازين القوى…
أدرك تحفظ البعض منَّا من الأخطاء المرتكبة في تدبير ملف القاصرين وما رافقه من صور مؤسفة عنا، ومعهم في ذلك حق. هذا اذا تغاضينا عن التصرفات العنصرية لقوات الحدود ضد القاصرين أنفسهم. غير انني أصر على أن الأمر أكبر، وأتمنى أن يكون كذلك.
مسافة الألف ميل – كما يعلم الجميع – تبدأ دائما بخطوة أولى.
وعلى كل، فلا بأس، ألسنا نقول في مثل هذه الحالات في المغرب العزيز: “وقت ما جا الخير ينفع”.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

 

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

4 تعليقات
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
نجيب السكاري
المعلق(ة)
13 يونيو 2021 13:31

سلم قلم و صوت الاستاذ صلاح الوديع،بعد صمت الاخرين الذين بيننا و خارج الوطن ،مثقفين و مفكرين و “مناضلين” . لكم جميل التحيات استاذنا الوطني المحترم.

قاسم محمد جرادة
المعلق(ة)
12 يونيو 2021 02:44

وفيت وكفيت أستاذ صلاح الوديع لمساتك دائما لها طعم بعد النظر وحب خالص لمصلحة هذا الوطن الذي إحتاج ومزال في حاجة ماسة لكل طاقاته من أجل أن يظمن بلدنا الحبيب موقعه المشرف ضمن مصاف الدول المتقدمة

كريم غيلان
المعلق(ة)
12 يونيو 2021 02:35

تحليل عميق و استشرافي للتحولات القادمة مستقبلا ينم عن اطلاع واسع لمقومات الازمة الراهنة بين المغرب و جارته إسبانيا..الاستاذ صلاح الوديع وضع الاصبع على الجرح اتمنى صادقا ان يشفى قريبا لان علاقتنا بالجارة إسبانيا يجب أن يكون استراتيجيا لا محل تدبدبات غير مدروسة فبغظ النظر عن التسابقات التي تفرضها راهنية الاقتصاد علينا استحضار الأواصر التاريخية….في مجال العلاقات الدولية اهتماماتنا يجب أن تنصب على مصالح الوطن أولا واخيرا..أوافق الاستاذ صلاح الوديع في كل حرف استعمله لانني اثق بجدارة و حبه الكبير لهذا الوطن العزيز الذي يجمعنا …مزيدا من التألق الاستاذ صلاح الوديع و دمت دائما كما عهدناك وفيا لتلك المبادىء النبيلة التي تجمعنا …مودتي الصادقة ع.كريم غيلان

نور الهدى
المعلق(ة)
11 يونيو 2021 20:16

مقال في الصميم.
لقد حان الوقت للقطيعة مع أساليب الماضي. كما قال السيد ناصر بوريطة: منطق الأستاذ و التلميذ الذي تنهجه أوروبا لم يعد مقبولا.
فهذا مغربها شفنا أم أبينا و يجب على كل المغاربة أن يشكلوا يدا واحدة من أجل التصدي و قطع الطريق على كل أعداء الوطن. و لطرح على أنفسنا سؤالا وجيدها :
” ماذا قدمنا للمغرب؟” الكثيرون ستجدون أنفسهم مجبرين على الإجابة ب: ،لاشيئ” و هذا أمر محزن جدا.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

4
0
أضف تعليقكx
()
x