لماذا وإلى أين ؟

متى يعتذر “الأزهر” لضحاياه ؟

يبدو أن العد العكسي لغربلة التراث الفقهي الإسلامي بشكل حاسم وغير مسبوق قد انطلقت فعلا كما تنبأنا بذلك لأكثر من مرة، فثمة عوامل ووقائع كثيرة تضافرت جميعها في العقد الأخير لتجعل استمرارية الكثير من بديهيات الفقه الإسلامي القديم وقواعده الفكرية أمرا مستحيلا.

فبعد أن تحول معقل التطرف الوهابي والإرهاب الفكري (العربية السعودية) ـ وبإرادة أمريكية ـ إلى “منار” لـّ”الاجتهاد” و”الانفتاح” و”السماحة” (ولو بطريقة سلطوية قهرية جعلت نصف فقهاء التطرف في السجون والمعتقلات، والنصف الآخر يتسابق في إعلان “التوبة” عن الإرهاب) فها هي المؤسسات والمرجعيات الدينية التابعة لقطب الغلو الديني تنقلب على أعقابها وتتلون بحسب الإشارات القادمة من أرض الحجاز، فقد أعلن شيخ الأزهر الملقب بـ “الإمام الأكبر”، بأن “الدعوة لتقديس التراث الفقهي ومساواته في ذلك بالشريعة تؤدي إلى جمود الفقه الإسلامي المعاصر، نتيجة تمسك البعض بالتقيد – الحرفي- بما ورد من فتاوى أو أحكام فقهية قديمة كانت تمثل تجديدا ومواكبة لقضايا عصرها”.

من خصائص الأزهر قدرته الكبيرة على التقلب وممارسة التقية، فعند محاكمة المتطرفين لا يجد الأزهر صعوبة في التبرؤ منهم وإن كان في الواقع يرى نفس ما يعتقدونه، بل يدرّس بعضه في مقرراته وبرامجه، ولكن ما أن يتراجع المتطرفون وتخبو جدوتهم حتى يأخذ الأزهر مكانهم ليمثل دور الغلو والتشدّد والجمود.

يتذكر جميع المهتمين بالشأن الديني كيف قام شيخ الأزهر قبل عامين بغزوة بلاغية ضدّ رئيس الجامعة محمد عثمان الخشت الذي دعا إلى التجديد الفكري وغربلة التراث الفقهي الذي تعد الكثير من مضامينه حاجزا منيعا أمام أي تطور، وكيف دافع شيخ الأزهر عن ذلك التراث الذي حسب قوله آنذاك “خلق أمة كاملة وسمح للمسلمين بالوصول إلى الأندلس والصين”.

طبعا من المعلوم أنه لم يسبق لرجال الدين في التاريخ كله أن قبلوا بالتراجع عن أفكارهم الأوثوذوكسية من تلقاء أنفسهم، بل إنهم لا يفعلون إلا بضغوط وإكراهات كبيرة إما من الحكام وأرباب السلطان، أو من الواقع الذي يتجاوزهم ويضطرّهم إلى الالتحاق به.

ويبقى السؤال المطروح حاليا هو ما إذا كان هذا التمييز بين الفقه والدين في خطاب شيخ الأزهر سيصلُ إلى مداه بالتركيز على مشكلة القراءة وقواعد التفسير والتأويل والاجتهاد التي نحتها ذلك الفقه القديم في قراءته للأصول، هذه القراءة التي ظلت حتى اليوم تمنع الفكر الديني الإسلامي من مواكبة ثورات الواقع وتحولاته الجذرية. ومن جهة أخر سيكون على شيخ الأزهر ومن في مثل موقعه أن ينتبهوا إلى أن في عمق ما يسمونه “ثوابت الشريعة” توجد أحكام مرتبطة بدورها بـ”قضايا عصرها” وببنيات سوسيوـ ثقافية وسياسية لم تعد قائمة اليوم، ما يعني ضرورة توسيع دائرة المتحول وتضييق دائرة “الثوابت” لتشمل فقط مجال العقيدة، طالما أن كل ما يتعلق بالدولة والمجتمع وبواقع التجربة الإنسانية لا يتوقف عن الانقلاب والتغيّر من عصر لآخر. ويستحيل كليا احتواؤه وتدبيره بنصوص جامدة.

ومن جانب آخر يطرح بشكل جدّي، أمام بداية التغيير هذه في خطاب شيخ الأزهر، مسألة  تغيير برامج ومناهج ومضامين التدريس بالأزهر، والتي ما زالت تعتمد أمورا يندى لها الجبين، كما من واجب شيخ الأزهر التفكير في الاضطهاد الذي تعرض له الكثير من المفكرين والمثقفين والباحثين على مدى القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين، بسبب دعوتهم من قبل إلى ما أشار إليه اليوم ودعا إليه هو نفسه، وهو ربط آراء الفقهاء بسياقاتها التاريخية وإزاحة التقديس عنها والدعوة إلى تجديد الفكر الديني وتغيير منطقه الداخلي والتمييز بين الدين واجتهادات البشر في الفهم والتفسير والتأويل. بل إن حتى ما أعلنه محمد بن سلمان من تمييز بين “خبر الآحاد” و”خبر التواتر” في الحديث هو تمييز ركز عليه سابقا الكثير من المفكرين العلمانيين الذين دعوا إلى عدم اضطهاد المجتمعات والتضحية خاصة بكرامة ملايين النساء اعتمادا على أخبار مروية 90 في المائة منها مشكوك فيها ولا مصداقية لها. فبعودة الأزهر اليوم إلى ما قاله هؤلاء يثبت أن الحق كان بجانبهم، ما يقتضي منه التحلي بالشجاعة وإعلان اعتذاره لهم كما فعلت الكنيسة برحابة صدر، عندما أعلنت أمام العالم اعتذارها عن كل أشكال الظلم والحجر والقتل والتعذيب والتضليل التي مارستها خلال تاريخها الطويل ضدّ العلماء والمفكرين والمبدعين وضد النساء بنسبة كبيرة.

ولهذا سيكون من النبل أن يعتذر شيخ الأزهر للائحة طويلة من المثقفين والمفكرين الذين اضطهدوا من طرف المشايخ، والتي تبدأ بعلي عبد الرازق وطه حسين ولطفي السيد، وتنتهي بفرج فودة ونصر حامد أبو زيد وإسلام البحيري وعبد الله نصر وغيرهم.

وقد حدث نقاش وتبادل اتهامات لعقود من الزمن بين مثقفي مصر والمثقفين الخليجيين، حيث اعتبر الأوائل بأن التطرف والإرهاب الديني جاء انطلاقا من السعودية ومن السلفية الوهابية تحديدا، بينما ردّ عليهم الخليجيون بأن الإرهاب باسم الدين انطلق عكس ذلك مع “الإخوان المسلمين” بمصر منذ 1928، ونحن نقول اليوم إن موجة الإرهاب الإسلاموي التي شهدها العالم وما يزال كانت نتيجة عوامل كثيرة أهمها الاستبداد السياسي الذي ظل يربط الدين بالدولة، إضافة إلى زواج الإيديولوجيا الإخوانية بالوهابية واقترانهما بعد الثورة الإيرانية مباشرة سنة 1979. وعلى البلدين معا مصر والسعودية أن يتحليا بإرادة سياسية حاسمة في تفكيك ما صنعاه على مدى عقود، ومحو آثاره من أذهان الأجيال القادمة عبر التعليم الجيّد والحياة الديمقراطية الحديثة.

لقد أثارت قرارات محمد بن سلمان وتصريحات شيخ الأزهر موجة من التشكيك بجانب الارتياح الذي عبر عنه  كثيرون، ومصدر الشك ما عودنا عليه الحُكام والفقهاء من خداع وانقلاب حربائي مع كل موجة أو واقعة ولو صغيرة أو عابرة، لكن يبدو أن اتجاه التاريخ كفيل بأن يحسم ـ بقوة الأشياء ـ في القطع مع الكثير من المساوئ السابقة.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها.

 

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

4 تعليقات
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
Simoulay
المعلق(ة)
29 يونيو 2021 20:56

Il faut aller plus loin et rompre avec ce fatras de doctrines plus politique et idéologique que religieuses et spirituelles. C’est une urgence pour avancer dans la voie de la modernité et laisser de côté les appels à l’obscurantisme, à la haine et au sous développement

محمد
المعلق(ة)
29 يونيو 2021 15:01

“Hassan” فكرك طاعون سيبقى ينخر مجتمعاتنا

Zeggo Amlal
المعلق(ة)
29 يونيو 2021 08:16

إن الزمن وما سيأتي به مزيد من البراهين والإكتشافات العلمية كفيل بتنبيه الغافلين وضحد يقينياتهم التي قيدت وعرقلت إنطلاق الفكر البشري نحو آفاق بعيدة قرونا عديدة قبل زمننا هذا، يقينيات حول شيء لم يثبت وجوده إلا في المتخيل ولم تجن منها البشرية سوى الخراب والتطاحن وتأخير عجلة التاريخ.

Hassan
المعلق(ة)
29 يونيو 2021 05:16

عدو الإسلام والمسلمين. كماوالعادة!

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

4
0
أضف تعليقكx
()
x