لماذا وإلى أين ؟

«الحركة التصحيحية في تونس»: ماذا حدث في ليلة 25 يوليوز

محسن عامر

قد يبدو غريبا جدا بالنسبة للمتابع المشرقي الذي يعيش في بحر سياسي هادر بالحركة والنزاعات، والذي يختزن في تاريخه تجارب حافلة من المغامرات العسكرية و النظم الكاريزمية أن يفهم أشكال الإنتقال السياسي التي طبعتها السلمية في تاريخ تونس منذ الإنتفاضة.وهو ما يجعل كلمة “إنقلاب” تختزن مفاعيل عنيفة جدا في هذه الذهنية.

يوم 25 جويلة الذي نال عدة توصيفات بدءًا من «إنقلاب» بالنسبة لحركة النهضة مروا بكونه «حركة استثنائية دستورية للرئيس» حتى اعتباره تفعيلاً دستوريا للفصل الثمانين من الدستور التونسي،وعلى اختلاف التوصيفات حسب مواقع الفاعلين داخل حقل الصراع السياسي المحتدم في تونس فقد كان هذا اليوم حدثا بارزا في تونس و«الربيع العربي» الذي كانت تونس مهده الأول. قد لا نبالغ إذا قلنا أنه أنهى مرحلة عقد من شكل من الحكم السياسي لحركة النهضة وفتح أبواب مرحلة جديدة مازالت معالمها لم تتشكل بعد . ولكن، في المحصلة يجب العودة قليلا إلى حدود 23 أكتوبر 2011 أي يوم إعلان انتصار حركة النهضة في إنتخابات المجلس التأسيسي و ما تلاه الذي نحت مشهد الحكم اللاحق في تونس بعد الثورة.

عشرة سنوات من حكم حركة النهضة «الحصاد المرّ»

حركة النهضة الإسلامية إستهلّت تجربة الحكم بفتح سجال هوياتي حول البند الأول من الدستور (المبدأ العام الذي يعرّف الدولة التونسية وهويتها السياسيةوالدينية والثقافية) وأرادت فرض تعريف لتونس كونها دولة “إسلامية” بالمعنى الأصولي لكلمة إسلامية. ثم وقفت ضد بند حرية الضمير وتجريم التكفير (الأمر الذي جعل نائبة نهضاوية عن جهة توزر تعلق عضويتها احتجاجا على منع التكفير).

حاولت تمرير بند يسمح بإنشاء “قوات مدنية مسلحة” متأثرة بأشكال من التنظم الحزبي استعملته النظم الدينية الفاشية. مع محاولة تمرير بند تمكين العسكر من الإنتخاب من أجل خلق «رأي عام سياسي» يشق حياد مؤسسة عسكرية لم تنبني عقيدتها يوما على التدخل في الشأن السياسي.

في الشارع رفعت حركة النهضة شعارات تقسيم هوياتي للمجتمع في وجه مناوئيها مثل “يا يساري يا علماني الإسلام خلاك لتالي”،وصعد وزير شؤونها الدينية في نفس الجامع الذي شهد هروب زعيم أنصار الشريعة ليدعوا الشباب للإلتحاق بالجهاد السوري في توريط لتونس في أجندات إقليمية في مستنقع الإقتتال الأهلي في سوريا.

أطلقت أيدي مليشيات رابطات حماية الثورة لترهيب المبدعين والكتاب و السياسيين المعارضين وصولا لسحل أحد المنتمين لحزب نداء تونس لطفي نقّض. إنتهاءا بتورطها في تكوين جهاز سري خطط ونفذ الإغتيال السياسي ضد زعيمين معارضين هما شكري بلعيد ومحمد البراهمي. عشية 2013 وصلت تونس إلى مفترق سياسي خيمت معه أجواء أشباح الإحتراب الأهلي فكان إعتصام الرحيل والتوافق الذي أعاد تدوريها داخل المشهد السياسي من جديد من بوابة التوافق مع الراحل الباجي قيد السبسي.

إلتقاء راشد الغنوشي وقيس سعيد و«بدعة العصفور النادر»:

النظام السياسي التونسي نظام برلماني لا صلاحية حقيقية فيه لرئيس الجمهورية عدى الدفاع والشؤون الخارجية، وتحركات الرئيس مقيدة بالرلمان. حركة النهضة التي شكلت مشهد الحكم وقاعدته الأبرز حكمت حتى 2014 بتحالف هشّ مع مكونين سرعان ما تفتتا هوما حزب التكتل وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي هو حزب الرئيس المنصف المرزوقي الذي حولته هيمنة حركة النهضة المطلقة واضمحلال حزبه إلي أسير وتابع لخيرات حركة النهضة. حتى في فترة التوافق التي أعقبت أزمة الإغتيالات السياسية واعتصام الرحيل، نجحت حركة النهضة بعد تحالفها مع حزب نداء تونس ورئيسه الباجي قايد السبسي إلى نقل المعركة إلى داخل كيان الخصم عبر استمالة رئيس الوزراء المحسوب حينها على حزب الرئيس يوسف الشاهد ودفعت نحو انقسام خصمها الأبرز وتفككه لاحقا. تكتيك حركة النهضة أن تعزل نفسها في مواجهة خصومها من جهة، والتحالف مع تكوينات ضعيفة تعمل كممتص صدمات في مواجهة خصومها السياسيين يمكن تحميلهم المسؤولية أو التخلي عنهم بسهولة وهو ما حدث مع المنصف المرزوقي وحزبه.

بدعة « العصفور النادر» التي أطلقها راشد الغنوشي تعني أن حركة النهضة مستدعة لدعم مرشح للرئاسية من خارج حزبها نفسه. بغاية خلق رئيس معزول بلا صلاحيات يكون في خدمة حركة النهضة. والملاحظ في هذا التكتيك أنه ترافق بتقديم مرشح حزبي مغضوب عليه هو عبد الفتاح مورو لإسقاطه لاحقا كورقة للتمويه من جهة ولحرقه سياسيا وبصفة نهائية وهو ما حصل.في الجهة المقابل ظهر أستاذ قانون دستوري مغمور يدعى قيس سعيد.ظهوره بعد الثورة ارتبط بشكل طريف في الحديث باستعمال اللغة العربية، بدون حزب سياسي وبدون تمويل وبدون برنامج واضح ويدون تاريخ سياسي. هذا profile السياسي اعتبرته النهضة هبة لا تقدر بثمن من السماء، وهو الشخصية المثلى لتطبيق نظرية العصفور النهضوية.

العصفور النادر يحلّق خارج قفص حركة النهضة

الخلاف الذي انفجر مبكرا جدا بين حركة النهضة وقيس سعيد كان حول الرُؤى العامة لتسيير البلاد داخليا وخارجيا لا كونه «نزاعا إجرائيا» حول الصلاحيات. قيس سعيد أنهى الجولة الإنتخابية بالضربة القاضية ضد أحد أقطاب الفساد في تونس نبيل القروي (الفار من تونس الآن). الحركة التي فشلت في تمرير مرشحها الحبيب الجملي، تمسكت بتشريك قلب تونس حزب نبيل القروي المورط في قضايا فساد في الحكومة مع مرشحيهما فاضل عبد الكافي، في حين حلق الرئيس بعيدًا باختيار إلياس الفخفاخ لتكوين الحكومة.

تكتيك حركة اانهضة أُصيب في مقتل، إذ في غياب المحكمة الدستورية السلطة العليا المكلفة بتأويل الدستور والتي عطلتها حركة النهضة بالذات (التي توهمت تواصل هيمنتها البرلمانية وبالتالي تأويلها للدستور) أصبح للرئيس ذو الصلاحيات الفخرية نظريا الحق في إبداء آراء دستورية وتأويل خاص منحه سلطة حقيقية منعت تمرير مشاريع حركة النهضة حتى بعد حصولها على الأغلبية في البرلمان. «تمرد» العصفور النادر ضيّق هوامش المنورة لدى حركة النهضة وحزامها البرلماني حتى بعد اختطاف مرشحه هشام المشيشي. إذ أن المصادقة على تحوير قانون المحكمة الدستورية والتحوير الوزاري عُطّل بنفس الصلاحيات الفخرية للرئيس (التوقيع “الشكلي للرئيس على القانون واستقبال الوزراء الجدد لإلقاء اليمين الدستورية).

المأزق السياسي الذي دخلته البلاد قابله تمسك النهضة وحزامها السياسي بحكومة فشلت في إدارة كل الملفات الاقتصادية وخاصة جائحة كرونا وأوصلت البلاد حافة الإفلاس. حركة النهضة لم ترد التنازل عن حكومة هي نفسها تقول أنها دمرت البلاد لمجرد عدم الرغبة في التنازل وإعادة المبادرة الرئيس الذي أصبح يلوح بفتح فلفات فساد و”تآمر” تطال النهضة وحلفائها، و تمسك الرئيس بتغير وزراء مقترحين تحوم حولهم تهم فساد. حركة النهضة طمحت لتركيز رئيس يكون صوتها الإيديولوجي في القضايا الإقليمية عبر ربط تونس بالمحور التركي، إلا أن الرئيس أخذ منزعا إستقلاليا حاول النأي بتونس عن الإستقطابات التي عاشها تونس منذ عشر سنوات. في انعدام المخارج السياسية للأزمة ،وتعطل دواليب البلاد تحت وطأة إحتراب سياسي يهدد وحدة البلاد وبطريقة لم تكن متوقعة، فعّل الرئيس البند 80 من الدستور بتأويله الخاص. هنا التوصيف الدستوري اامتمترس خلف يافطات المتنازعين لما حدث لا يُسعف أحدًا من الفراء لتأكيد أحقية سياسية في الحكم. إعتبار حركة النهضة أن ما حدث هو انقلاب قابلته هبة شعبية كبيرة مساندة لحركة الرئيس وتعامل حذر من الرئيس داخل تاويله الدستوري لحركته التي قام بها.

غياب الجو السينمائي الذي يرافق الإنقلابات العسكرية (الإيقافات بالجملة، تطويق المدن بالجيش، الإقامات الجبرية للقيادات السياسية..) سببه أن الرئيس يريد أن يعطي إنطباعا عاما هادئا كون الحركة التي حصلت لم تخرج عن جبة الدستور(هذا ما يفسر أن الرائد الرسمي هو البوابة التي مرت من خلالها الإعفاءات الحصالة حتى اليوم..)، في الوقت الذي يستميت فيه الخوانجية على تسويق ما حدث للخارج على أنه إنقلاب وأن الحكم الحالي حكم عسكري غير دستوري وهو ما ساعدها فيه بسوء تقدير شديد حزب العمال. الدستور ليس شكلا قانويا مستقلاّ عن العالم الإجتماعي..خاصة عندما يكون دستورا ملغوما كهذا قد تأنف منه حتى عنزة قيس سعيد..

أما عن الحفاظ عن ما تبقى من الإنتقال الديمقراطي فهي مسؤولية قواه الحية التي ناضلت ضد الإستبداد مرة وضد الظلامية ومحاولة التمكين مرة أخرى والمطالبة بأن تكون هي الضمانة الحية أمام ما يسمى المجهول ..

كاتب من تونس

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا

 

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

1 تعليق
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
مواطن
المعلق(ة)
29 يوليو 2021 23:52

ماحدث في تونس ليس انقلابا او نصف انقلاب. ماحدث يعتبر ممارسة لرئيس دولة ذات سيادة لاختصاصاته، قد يكون مصيبا فيها او مخطئا.
الرئيس التونسي منتخب ولم يصل للسلطة عبر انقلاب، ومن يعتبرون الامر انقلابا هم من يسعون في الواقع الى الانقلاب.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x