2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
مونولوغ.. مع حرية التعبير

أبو إلياس
قررت اليوم أن أمارس حقي في التعبير، وأن أتمتع بكامل حريتي الدستورية في إبداء الرأي والقول، وفق الشكل الذي رسمه وصوّره لي نشطاء منظمات حقوق الإنسان بالمغرب.
كما قررت أن أقول ما يعتمل عقلي وسريرتي، بلا فرامل ولا كوابح ولا حدود فاصلة بين الحق والواجب، ما دام أن حرية التعبير هي حرية مطلقة ولا قيود لها أو عليها، وسندي في ذلك مذكرات وبيانات منظمة العفو الدولية-أمنستي.
وقررت أيضا أن أتلفظ بكل شيء، وأن أقول كل شيء، ما دام لا حرج علي في الرأي والقول، وأن أهتف في الناس بكل الكلام المباح منه والمدان، فحرية التعبير حق عالمي تكفله المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
واحترازا مني، قررت أن أتمرّن على ممارسة حريتي المطلقة في التعبير في نشطاء حقوق الإنسان، لأنهم كما يدعون يؤمنون بقدسية الحق المطلق، ويتنفسون الحرية نسيما عليلا.
وبعد أن أتمرن جيدا على ممارسة حرية التعبير، واكتسب المهارات الضرورية فيها، قررت وقتها أن أنتقل مُحصنا لممارسة هذا الحق في مواجهة السلطة، التي ستكون عاجزة حتما أمام تجربتي الطويلة وترسانة قوانيني.
وقتها لن تُدْمِ أصفاد السلطة مِعصمي، ولن تستبدل هويتي برقم اعتقال اعتباطي تتحكم فيه الصدفة، بيد أن هويتي اختارها لي أبي وأمي ” بالشهوة” ذات شتاء ماطر من سنوات السبعينات.
ولئن كان لا ضير في التعبير، ولا حرج في القول، كما تقول خديجة الرياضي، فقد قررت أن أبدأ منها وأن أنعتها بأقبح العبارات وأذمها، وأن أنهش في عرضها.. لكنني خجلت من نفسي وتساءلت أهذه هي حرية التعبير؟ أن تصف سيدة بأنها “بلا كرامة” هي فعلا حرية التعبير؟
وبعدما تلاشت عني حُمرة الخجل، قررت أن أمارس حريتي في التعبير في حق المعطي منجب، حتى لا تُؤوَّل حريتي على أنها تمس بمقاربة النوع، فآثرت أن أصفه بعبارات التحقير والتقريع والتجريح…وأن أقول فيه ما قال مالك في الخمر، لكنني أقلعت في آخر لحظة على صوت خافت لابني الصغير، يهمس في أذني بأن “الكلام القبيح مذموم في محكم الفرقان والذكر الحكيم”.
طأطأت رأسي خجلا لنجلي الصغير، حتى لا أكون نموذجا فاشلا له يُحتدى به في السب والشتم، وانزويت عنه بعيدا لممارسة حريتي في التعبير، فأنا متعطش لامتهان هذا الحق المطلق، وهذه الحرية العصية عن كل تقييد أو استثناء.
وبعد سجال طويل مع الذات والأنا، قررت أن أقول كلمتي وأمضي، مثلما قالها بالرسم والكاريكاتير صاحب شخصية “حنظلة”. وقلت لنفسي لماذا ضاق صدر النيابة العامة بوصف ” Bourreau “، وتساءلت عن مدى وقع هذه الكلمة على المحامي عبد الرحيم الجامعي؟ كيف ستكون ردة فعله إذا وصفته بالجلاد والمحامي بدون كرامة؟ هل سيجرجني أمام العدالة بتهمة السب والشتم والإهانة؟ أم أنه متشبع بثقافة حقوق الإنسان كما يدعي وسيقول إنها تمرين على حرية التعبير؟
وبما أنني مدرك حد اليقين بأنه سينزع للأولى، وسيدبج عريضة الشكاية وملتمس التعويض، فقد قررت أن أتراجع عن وسمه بمثل هذه الأوصاف، فأنا لست قادرا على تحمل دعوى التعويض، وذمتي المالية لا تقدر على تغطية نفقات الدعوى والإجبار في الأدنى.
فكرت وخططت مليا، فأيقنت بأن ممارسة حريتي في التعبير على سجيتها بدون خوف ولا وجل، ستكون مع الأمير هشام، الذي يمكنني القذف في شخصه، والتقليل من كرامته، والتقريع في مستواه الفكري، والتشكيك في أجنداته الداخلية والخارجية، فهو كما يدعى يحترم حرية التعبير ويؤمن بها كحق غير قابل للتنقيص. لكنني تكهنت بأن حريتي قد تمس بشكل عرضي بزوجته وأبنائه، فأقفلت عن مشاريعي الحقوقية وممارسة حريتي في التعبير.
وتساءلت بصوت يصدح من الأعماق: ماذا سيكون رد الحقوقيين إذا وصفتهم بكل هذه الأوصاف الحاطة من الكرامة؟ وإذا قبلوها هم، هل سيتقبلها أبناؤهم في المدارس وأمام زملائهم في الفصول الدراسية؟ وهل ستقبلها زيجاتهم أو أزواجهم في الواقع وليس اصطناعا للموقف أمام الكاميرات؟ وهل خدش الكرامة هو تمرين من تمارين الحرية كما يدعون زيفا؟
راجعت نفسي، وأمهلتها قليلا من التفكير والتأني، وقلت وقتها إن القاضي المنعوت بالجلاد والمعذب وبدون كرامة هو أولا وقبل كل شيء إنسان، له أبناء ومحيط اجتماعي وكرامة، وحرية المرء في التعبير تقف عند حدود حفظ كرامة الآخرين، وكأن لسان حالي يتحدث بعفوية ابني الصغير عندما همس في أذني مثل همسات الضمير ” إن التجريح في الناس كلام يذمه الشرع والأخلاق والقانون”.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.