لماذا وإلى أين ؟

التاريخ الرسمي الجزائري بين انتهاء الصلاحية والخوف من فتح أرشيف الذاكرة التاريخية

أصبح في حُكم اليقين أن جنرالات النظام العسكري/السياسي بالجزائر، يهابون كشف الحقيقة التاريخية لمرحلة الثورة الشعبية وما بعد الاستفتاء ـ المشروط ـ في الفاتح من يوليوز 1962، كما يهابون كشف تفاصيل الانقلاب الشبه عسكري الأول على قادة الحكومة الموقتة (فرحات عباس و بن خدة …)، ثم تفاصيل الانقلاب العسكري الثاني على الرئيس احمد بن بلة سنة 1965، مرورا بعمليات تصفية المجاهدين الاحرار في جبال القبايل والتمثيل الجسدي بمعارضيهم في صفوف الجيش الشعبي وأيضا ” الْحَرْكيين ” والأوروبيين (الاقدام السوداء) وبعض الأسر اليهودية التي رفضت مغادرة أرض اجدادهم…بالإضافة الى السجن والتعذيب والاختفاء القسري الذي تجرع منه العديد الصحافيين والكتاب والشعراء جزائريين وفرنسيين بعد إعلان الجنرال ديغول عن استقلال الجزائر في الثالث من شهر يوليوز 1962.

لكن ما يُرهب جنرالات النظام الجزائري اليوم، هو الكشف عن حقيقة ما وقع بين تاريخ إعلان الجنرال ديغول عن استقلال الجزائر يوم 3 يوليوز وتاريخ اختيار قادة الانقلاب على الثورة الشعبية الاحتفال بالاستقلال يوم 5 يوليوز 1962، بعيدا عن التبريرات الهشة القائلة بمصادفة يوم 5 يوليوز 1830 مع تاريخ دخول الجيوش الفرنسية مكان الجيوش العثمانية لتلك الرقعة الواقعة على شرق الإمبراطورية المغربية الشريفة.

لقد بَطُل مفعول الشعارات الموروثة عن مرحلة الانقلابي “هواري بومدين” بانهيار حائط برلين، وحلت محلها مطالب سياسية كالتعددية الحزبية وأخرى مجتمعية ترتبط بالعنصر الأمازيغي الجزائري وتحسين مستوى التعليم والصحة والتشغيل. باعتبار الجزائر دولة غنية باحتياطاتها الطاقية وتوفرها على السيولة المالية الكافية للرفع من مستوى عيش المواطن الجزائري الشقيق ورفاهيته.

فالحقيقة التاريخية، هي أكبر كابوس يقـض مضجع معشر جنرالات النظام الجزائري، الأمر الذي دفعهم إلى نسج تاريخ على مقاسات معينة يُـسميه البعض “بالتاريخ الرسمي للجزائر”، وسَخًروا من يُـدافع عن شرعيته التي تضمن مشروعية نظامهم العسكري واستمرارهم في السلطة، رغما عن كل الواقفين في طوابير الخبز واللحم والزيت والحليب…

كما أن الحقيقة ليست أصلا تجاريا يحتكره النظام العسكري الجزائري، بل نجد الكثير من الحقائق الصادمة للنظام في أرشيف المرحلة خاصة بدول فرنسا وسويسرا وأيضا في العديد من تقارير المراسلين الأجانب من إيطاليا وفرنسا وسويسرا والدانمارك، بالإضافة إلى دفاتر ” شبكة جونسون” ورسائل “حاملي الحقائب”… وهي الحقائق التي يعرفها جيدا النظام الجزائري.

لذلك لا نُـفاجأ عندما يحتفي هذا النظام بإحدى الشخصيات الوازنة ويسعى إلى خندقتها في نادي أصدقاء الثورة الجزائرية، كالإيطالي “انريكو ماتي” مثلا، والذي اكتفى النظام بقول نصف الحقيقة في حقه. وبنفس الطريقة تعامل النظام في شهر دجنبر 2021 مع الصحافي الإيطالي الكبير “فيرناندو فالي” (91 سنة) بتوشيحه كصديق للثورة من طرف الرئيس الجزائري، في حين أن الصحافي “فالي ” كان مبعوثا صحافيا لجريدة ” L’UNITÀ ” الإيطالية وهي جريدة معروفة بميلها اليساري كما مال مؤسسها انطونيو كرامشي سنة 1924، لكن “فالي” كان صحافيا محترفا وغطى أكثر المناطق سخونة كالكمبودج والفيتنام وإيران والبوسنة وأيضا الثورة الجزائرية، حتى أن جريدة ” لاريبوبليكا” الإيطالية وصفته بأنه “أكبر مراسل حربي إيطالي في النصف الثاني من القرن العشرين.”

اليوم بإمكاننا قراءة حقيقة ما وقع يوم 3 يوليوز من سنة 1962عند إعلان الجنرال ديغول عن استقلال الجزائر من خلال مقال نشره ” فيرناندو فالي نفسه في جريدة “لاريبوبليكا” يوم 5 يوليوز من سنة 2012، حيث وصف الكاتب الجزائري الكبير ” كاتب ياسين ” صاحب كتاب ” نجمة ” ما وقع في ذلك التاريخ “بالتراجيدي” وبأنه غير مبشر بمستقبل زاهر للجزائر.

كما وصف مشهد الحافلة التي كانت تقل بعض أعضاء الحكومة الجزائرية المؤقتة إلى جانب بعض قادة الثورة في استعراض وسط العاصمة الجزائر، بأن “تلك الحكومة كانت لها سلطة هشة وفي لحظاتها الأخيرة، كما كانت تجسد فخر الشعب الجزائري الذي من اجل الكرامة الوطنية فقد مئات الالاف من الرجال والنساء (حوالي 300 ألف) …لكن جبهة التحرير الوطني رفعت الأرقام الى مليون من الضحايا والشهداء”.

ويضيف ذات المقال ان “احمد بن بلة ” استعان من أجل الانقلاب على الحكومة المؤقتة (حكومة عباس فر حات وبن خدة) بالكولونيل هواري بومدين وجنوده (حوالي 80الف) أغلبهم من الفارين من جيش الجنرال Massu ، ثم ما لبث ان انقلب بومدين على أحمد بن بلة وسجنه مدة 16 سنة. ولم يفت الصحافي “فالي” أن نعت كل من فرحات وبن خدة بالليبراليين الديمقراطيين ووصف لقاء “الصومام” بالدموي رغم طابعه السياسي.

التراجيديا التي تكلم عنها الكاتب الكبير ” ياسين كاتب ” ونقلها عنه الصحافي “فالي” تمثلت في أن جنود بومدين ورثوا كل أساليب التعذيب والقهر عن الجنرال الفرنسي الشهير ماسو، ومارسوا ساديتهم على كل معارضيهم من الصحافيين والمناضلين والحقوقيين. ولعل كتاب “المسألة” للصحافي الفرنسي “هنري علًاق” هو خير دليل على تنبؤات كاتب ياسين بخصوص تراجيدية المستقبل الجزائري. فبعد قراءتنا للوقائع بعيون الصحافي الإيطالي فالي يمكننا القول مجازا أنه صديق للثورة الجزائرية الحقيقية، وليس صديقا لسارقي الثورة الجزائرية.

لذلك فإن التاريخ الرسمي للجارة الشرقية هو موجه بالأساس للاستهلاك الداخلي فقط، ويهدف الى رفع من درجة الاحتقان بين شعبين تقاسما الطعام والسلاح وتقاسما النضال والمقاومة ضد الاستعمار. يكفي العودة إلى اعترف “احمد بن بلة ” نـفسه على قناة خليجية عندما قال إن منطقة الريف المغربي وخاصة مدينة الناظور عرفت انطلاق الشرارة الأولى للجيش الشعبي الجزائري.

كما لا يمكن التاريخ الرسمي لجنرالات الجزائر إنكار خطاب السلطان الراحل محمد الخامس أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة سنة 1957 ومطالبته ببدء مفاوضات لاستقلال الجزائر وسط تصفيقات الحاضرين، ونفس المطلب أعاده بعد ذلك أمام نفس الهيئة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراهما.
إن تزييف الحقائق كانت ولا تزال هي الرياضة المفضلة للنظام العسكري الجزائري، على رأسها التمسك باتهام المغرب في حادث قرصنة الطائرة المغربية المتجهة لتونس وعلى متنها قادة الثورة في أكتوبر سنة 1956.

لكن بالاطلاع على مقال نُـشر سنة 2007 حول قضية المدعي الفيدرالي السويسريRené Dubois وتورطه في قضية تجسس على السفارة المصرية بمدينة بيرن السويسرية، وهي الفضيحة التي كلفته حياته منتحرا، يتبين أن ضابط المخابرات الفرنسية Marcel Mercier كان يعرف كل ما يدور داخل السفارة المصرية ببيرن عن طريق المفتش Max Ulrichالمكلف من طرف المدعي العام René Dubois؛ ويضيف المقال ان سفارة فرنسا ببيرن أصبحت هي مسرح كل الاحداث كأخبار الفيلسوف Francis Jenson وحاملي الحقائب وأيضا سفر قادة الثورة بالطائرة المغربية وخلاصات مؤتمر الصومام.

هذا في الوقت الذي كان يتواصل فيه رجل عبد الناصر وصديق احمد بن بلة فتحي الديب، وهو بالمناسبة أحد مؤسسي المخابرات العسكرية والمكلف بالعلاقات مع الأقطار العربية والحركات التحررية وهو صاحب فكرة صوت العرب، مع قادة جبهة التحرير الوطني عن طريق السفارة المصرية بسويسرا، ثم أصبح سفيرا لمصر في سويسرا سنة1961 لمتابعة مفاوضات “ايفيان” عن قرب. لذلك فكل الكواليس الخاصة بالثورة وقادة الثورة كانت تصل الى علم الأجهزة الأمنية الفرنسية الى حدود انتحار المدعي الفيدرالي السويسري وسجن المفتش.

من جهة أخرى، فكل الأدبيات الجزائرية التي تلصق تهمة الخيانة بالمغرب في موضوع قرصنة الطائرة هي مجرد بروباغاندا عدائية مجانية. ودليل براءة المغرب يكمن في تفاصيل قضية المدعي الفيدرالي السويسري ” Affaire Dubois” والتي خاض فيها كل من المؤرخ والمستشار العلمي للوثائق الديبلوماسية السويسرية Marc Perrenoudوأيضا الصحافي والمدير السابق لمتحف الإليزي بلوزان السويسرية Faraud.

صفوة القول أن زمن الشبكات التواصلية والمواقع الالكترونية وتوفر المعلومات والتقارير، جعل كل أوراق التوت تسقط عن “التاريخ الرسمي” العدائي للنظام العسكري الجزائري، ونعتقد أنه لم يعد هناك مجالا للانتقائية في سرد الوقائع التاريخية أو تشخيص المشترك في الذاكرة الجماعية والتي تعمد النظام العسكري/السياسي الجزائري تزييفها وبناءها على مقاسات معينة وفي زمن معين ولصالح أيديولوجية معينة.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

1 تعليق
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
Nasser
المعلق(ة)
19 يناير 2022 20:30

Le maroc est l’ennemi non pas du régime algérien mais des algériens. C’est comme ça. C’est dommage peut-être mais c’est comme ça. Alors monsieur écrivez et tournez votre style vous ne faites que vomir cette réalité.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x