لماذا وإلى أين ؟

التربية الإسلامية ومادة الفلسفة في مناهجنا التعليمية

سعيد الغماز

يسود في مجتمعنا المغربي نقاش حول تدريس التربية الإسلامية وتدريس مادة الفلسفة، ومَن مِن المادتين لها الأحقية والأسبقية في اهتمام المناهج التعليمية. ومن المفارقات الغريبة التي صاحبت هذا النقاش، وضع الفلسفة في مقابل التربية الإسلامية أو العكس التربية الإسلامية في مقابل العلوم الفلسفية، دون باقي المواد التي تحتضنها المناهج التعليمية. فانقسمت الآراء، في صورة خيالية ومبنية على تفكير طوباوي، بين مناصر للتربية الإسلامية ومُقصيا مادة الفلسفة، أو مناصر للفلسفة مع إبعاد مادة التربية الإسلامية، وكأن المادتين متعارضتان ولا تقبلان الوقوف جنبا إلى جنب.

لقد غاب عن الرأيين، سواء المناصر للتربية الإسلامية أو المناصر للفلسفة، أن العالم المتقدم أو الذي يبحث عن موقع له في خريطة النمو والتقدم، يتجه نحو مناهج جديدة تُطور قدرات الطالب في أخذ المبادرة والقدرة على الإبداع. وهذه المناهج الجديدة أصبحت لها موادا تُلقَّن للتلاميذ منذ السنوات الأولى. إننا نعيش في زمن الابتكار والقدرة على الإبداع، ومثل هذا الفكر وهذه الثقافة هي التي تبني الشعوب التي ستسيطر على العالم في المستقبل. ويكفي أن نلاحظ أن جميع المنتوجات التي نستهلكها يحتل فيها الابداع والابتكار مساحة تزداد أكثر فأكثر، في مقابل مساحة العمل البشري الذي يتقلص في هذه المنتوجات. بمعنى أن المنتوجات المستقبلية ستكون منتوجات الابتكار أكثر منه منتوجات قائمة على أساس العضلات البشرية. إنه زمن روح الابتكار الذي يحل محل قوة العضلات.

ليس النقاش العقيم والمغلوط حول مادة التربية الإسلامية أو مادة الفلسفة، هو الذي يجب أن يستأثر باهتمام مجتمعنا المغربي. بل النقاش الذي يأخذ بعين الاعتبار ما يجري من حولنا وكيف سيكون المستقبل هو النقاش الصحي والصحيح الذي يجب أن يسود بيننا. فلا المدافعين عن التربية الإسلامية، ولا هؤلاء المدافعون عن الفلسفة يدركون ملامح عالم الغد ليقترحوا المواد التعليمية المناسبة لبناء جيل مغربي قادر على رفع التحدي وبناء موقع له في عالم الغد.

الذين يدافعون عن مادة التربية الإسلامية على أساس حماية عقول الشباب من الأفكار الإلحادية أو العلمانية، لا يعرفون أنهم بهذا التوجه سيخلقون جيلا ضعيفا أمام التحولات العالمية، وغير قادر على الدفاع عن أطروحته في عالَم شعاره الانفتاح والاطلاع على كل ما يدور في الكرة الأرضية من خلال شاشة صغيرة. والمتحكم في هذه الشاشة بإمكانه قيادة العالم وقيادة سواء شباب التربية الإسلامية أو شباب الفلسفة. لأن العالم قائم على مدى قدرة الشعوب على الابتكار والاختراع وليس على مدى دراستها لمادة التربية الإسلامية او مادة الفلسفة. فمادة التربية الإسلامية قد تكون ضرورية لربط الشباب بتاريخهم ودينهم، لكنها غير كافية لبناء المستقبل المنشود.

والمدافعون على الفلسفة بناء على تصور يفيد بأن التربية الإسلامية مادة متجاوزة وأصبحت غير ذات موضوع قياسا للفلسفة التي تُنير العقول وتنشر الوعي، هم كذلك لا يأخذون بعين الاعتبار الاتجاه الذي يسير فيه العالم ولا يُدركون أن أي فلسفة كيفما كانت لا تملك القدرة على هزم الدين أي دين. ثم إن اختزال الفلسفة في مادة لمواجهة مادة أخرى هو فهم يقزم الفضاء الرحب والشاسع الذي يوفره التفكير الفلسفي القائم على التأمل والابداع. ويكفي هؤلاء أن يعرفوا أن سبب ظهور الفكر الفلسفي هو المعتقدات الدينية في حد ذاتها، وأن المبحث الأول للفلسفة منذ نشأتها تطرق للأساطير التي كانت ترافق المعتقدات الدينية. عليهم كذلك أن يعرفوا أن عصر فلسفة الأنوار تناول حقبة القرون الوسطى التي ساد فيها الفكر الكنسي وما ارتبط به من خرافات لعل أبرزهاصكوك الغفران، ومن ديكتاتورية فكرية تختزلها محاكم التفتيش التي عانا منها المفكرون والفلاسفة قبل غيرهم. لكن خلال فترة العصور الوسطى في الغرب والتي يصفها مفكرو النهضة الأوروبية بعصور الظلام، كان العالم الإسلامي يعيش فترته الذهبية التي أنتجت نخبة من العلماء والفلاسفة والمفكرين الذين ألهموا رواد عصر النهضة الغربية. ونذكر على سبيل الحصر ابن رشد والخوارزمي والشريف الادريسي والغزالي وابن سينا والفارابي وغيرهم كثير من المفكرين الذين تمت ترجمة مؤلفاتهم إلى اللغة اللاتينية.

إن النقاش الذي يجب أن يسود مجتمعنا المغربي هو كيفية بناء عقول المستقبل. هذه العقول يجب أن تكون قادرة على الابتكار والاختراع إن أردنا أن نستمر في بناء حضارة تحتل المكانة التي تستحقها استنادا لتاريخها وعظمة أمجادها التي دامت لعدة قرون. بناء هذه العقول لن يكون باتباع مناهج شعوب أخرى حققت طفرتها التنموية وإقلاعها الاقتصادي. فبناء العقول لا يُستورد، وإنما يقوم على أساس التوليفة الناجحة بين الأصل والعصر، بين التاريخ والمستقبل. على هذا الأساس نقول إن شبابنا محتاج لمناهج متطورة في التربية الإسلامية تأخذ بروح العصر، ومناهج في الفلسفة تمنح للشباب آليات التفكير والقدرة على الابداع تطبيقا لمقولة “امنحوا لعقولكم كل الفلسفات، ولا تمنحوا عقولكم لأي فلسفة من تلك الفلسفات”.

فلا دعاة تدريس مادة التربية الإسلامية يطرحون الخيار الصائب ما داموا يُقصون مادة الفلسفة لاعتبارات واهية، ولا دعاة مادة الفلسفة يملكون الحل السحري ما داموا يطرحون الفلسفة بديلا لمادة التربية الإسلامية، وما داموا بعيدين عن الفهم الصحيح للفلسفة كمادة مهمة لجعل الشباب يتَمَلَّك آليات التفكير ويجعل من طرح الأسئلة منهجا عقلانيا في تطوير قدراته الفكرية، بعيدا عن الاستغلال السيء للفلسفة لتمرير قناعات لا تعترف بالدين. على هؤلاء جميعا أن يدركوا أن في مجتمع المعرفة والابتكار لا مادة التربية الاسلامية التي لا تأخذ بعين الاعتبار تطور المجتمع بإمكانها خلق الشاب المتدين، ولا الفلسفة كما يريدونها أن تُدرس كمادة متعارضة مع الدين قادرة على خلق الشباب البعيد عن دينه.

إن النقاش الذي يجب أن يسود مجتمعنا المغربي هو كيفية إنجاز المواد التي تغرس في المتعلمين روح المبادرة وحب الابتكار منذ مرحلة الابتدائي، وكيف يمكن أن تُصاحبهم هذه المواد طيلة رحلتهم التعليمية حتى المستوى الجامعي. ولكي تكون هذه المواد بَنَّاءة وذات فعالية في بناء مجتمع متوازن ينظر للغد بعين التفاؤل، يحتاج الشباب المغربي لدراسة التربية الاسلامية التي تربطه بجدوره وحضارته، وتعزز انتماءه الثقافي كأحد مُرتكزات بناء جيل الابتكار والاختراع في زمن العولمة، ويحتاج كذلك لتدريس مادة الفلسفة لامتلاك الآليات الضرورية لبناء الفكر العقلاني القادر على الانسجام مع محيطه العالمي وتجويد قدرته على الابتكار والاختراع. وفوق ذلك، نحتاج لتدريس التلاميذ مادة جديدة تجعلهم على إلمام كبير بموضوع الابتكار والابداع ومتشبعين بثقافة المقاولة كعنصر مهم في بناء شخصية التلميذ القادر في المستقبل على الاعتماد على ذاته في كسب رزقه وتطوير مجتمعه واقتصاد بلاده. وهو الأمر الذي لن يتأتى إلى ببناء شخصية مغربية متوازنة تَدْرُس التربية الاسلامية بمناهج عصرية، ومتشبعة بالفلسفة كوسيلة لتطوير آليات التفكير وتدعيم مَلَكَة الإبداع والابتكار.

فمتى سنشاهد في مجتمعنا المغربي الأصوات التي تنادي بتدريس مادة تغرس في تلامذتنا روح الابتكار والاختراع بدل هذا النقاش العقيم والمتجاوَز الذي يضع الفلسفة في مواجهة التربية الإسلامية؟

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

2 تعليقات
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
REYYANI
المعلق(ة)
6 مارس 2022 12:27

باختصار غير مخل.
إلى السيد التيجيني خصوصا و السادة الصحفيين و الكتاب عموما. طالما لإعلام في الدول النامية ( المتخلفة) غير متحرر و غير مستقل فإن الإنتاج الصحفي يضل مشوها.
تحرروا من النظارات السياسية و الايديولوجية التي تبرز السليم مشوها. و المشوه سليما. و ثقوا ان المغاربة يجيدون القراأة و يحسنون الاستنتاج. و لكنهم إلى الآن لم يجدوا صحافة تربط ماضيهم بمستقبلهم بخطاب معاصر رصين و متزن.
تحياتي

لغضف علال
المعلق(ة)
15 فبراير 2022 23:57

إنتاج شخصية التلميذ المبادر والمقاول ، لا تنشؤها فقط مناهج تعليمية مشبعة بروح الابتكار والابداع ، بل تنشؤها بالأحرى أنظمة ديمقراطية تحتضن المبادرات الابداعية عبر تهيئ مشروطيات تكافؤ الفرص في سياق نظامها السياسي والاقتصادي والسياسي، والتعليمي، وهذا ما تفتقده أنظمتنا السالفة بالجملة الشيء الذي يجعل من دعوات كهاته لتطوير المناهج التعليمية حتى تكون في مستوى متطلبات العولمة مجرد كلام انشائي ، ميت لن يجد طريقه إلى الحياة لافتقاده إلى أدنى شروط الحقيقة الاجرائية

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

2
0
أضف تعليقكx
()
x