لماذا وإلى أين ؟

العجلاوي يُفكِّـك الإعتراف الاسباني في أبْعاده القانونية والسياسية و آفاقه المُستقبلية

أخيرا اعترفت إسبانيا بسيادة المغرب على الصحراء من خلال الإنتصار لمبادرة الحكم الذاتي، و سيشكل يوم 18 مارس 2022، تاريخ صدور بلاغ الديوان الملكي حول الموضوع، مرجعا تاريخيا في المواقف الرسمية الإسبانية تجاه نزاع الصحراء الإقليمي. إعلان حكومة الإشتراكي بيدرو سانشيز الإعتراف بمرجعية مبادرة الحكم الذاتي حلا سياسيا و الأساس الأكثر جدية و واقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف حول الصحراء، هو نقلةٌ نوعية هامة في الموقف الإسباني تجاه المغرب، منذ توقيع الإتفاق الثلاثي في نوفمبر 1975. هذه ليست المرة الأولى التي تعلن فيه إسبانيا موقفا يشكل منعطفا في تاريخ العلاقات المغربية الإسبانية، إذ شكل ماضي اسبانيا في مواجهة المغرب عبر العصور التاريخية الطويلة أساس بناء الدولة الوطنية في اسبانيا، ولذلك ظل المغرب بتاريخه و أندلسه وحضارته وقيمه مرجعا لهذه ” الدولة الوطنية”، وما زال الأمر كذلك إلى يومنا عبر تمظهرات سياسية للحزبين الرئيسيين الحزب الإشتراكي والحزب الشعبي، لينضاف إليهما اليوم الحزبان المتطرفان بوديموس وفوكس.

الإعتراف الإسباني له دلالاته الخاصة فإسبانيا تعرف جيدا خبايا النزاع، و كانت طرفا مُستعمرا للصحراء إلى حدود الإتفاق الثلاثي في نوفمبر 1975، وتآمرت مع الواجهات المتعددة للنظام الجزائري، آخرها ما وقع في أبريل 2021، كورقة ضغط على المغرب، بل إن تصريحات رسمية جهرت، حين انكشفت فضيحة بن بطوش، بأن اسبانيا لن تعترف أبدا بسيادة المغرب على الصحراء. اسبانيا دولة إقليمية، والمغرب لا يريدها أن تكون طرفا في النزاع لكي لا تعود الأمور إلى ما قبل 1975، لكنها عضو في ” مجموعة أصدقاء الصحراء الغربية”، مجموعة تستشار عند صياغة قرارات مجلس الأمن حول الصحراء، فإعلان 18 مارس 2022، في مستوى الإعتراف باستقلال المغرب وإعادة “الشمال”إلى المغرب في أبريل 1956 و طرفاية ( 1958) وإفني (1969) والصحراء ( 1975). علاقات المغرب مع اسبانيا لها نكهة خاصة بحكم التاريخ والماضي المشترك والمتقاسم والمتنافر أيضا….

لا يمكن فهم قرار الحكومة الإسبانية المعلن عنه يوم 18 مارس 2022 باعتماد مبادرة الحكم الذاتي دون استرجاع اللحظات التاريخية المفصلية في علاقات اسبانيا بالصحراء و كيفيات تجاوز الأزمات بين البلدين، وقراءة هذه المراحل المفصلية تتيح استخراج قاسم مشترك، وهو أن الأزمات بين البلدين تنتهي دائما بخطوة اسبانية نحو المغرب. و بين زمن وضع الطلب المغربي في اللجنة الخاصة التابعة للأمم المتحدة بخصوص تصفية الإستعمار في الصحراء العام 1963، (الطلب المغربي في أرشيف الأمم المتحدة A/AC.109/55)، وبين يوم 18 مارس 2022، تمتد مسافةٌ زمنية ترجمت فيها المواقف الإسبانية تجاه سيادة المغرب حول الصحراء. فقط محترفو دبلوماسية الأبواق و ردود الإنفعال وغياب رؤية استراتيجية، وحدهم تحدثوا عن المفاجأة والإندهاش و الخيانة. ألم يـدْعُ الملك محمد السادس في خطاب ثورة الملك والشعب يوم 20 غشت 2021، إلى مرحلة جديدة بين البلدين، وأن الحوار بين المغرب واسبانيا يحظى بإشراف ملكي؟ إعلان 18 مارس 2022 هو ثمرة لمفاوضات و تفكير عميق ومصالح مشتركة و دبلوماسية متزنة وهادئة.

الاعتراف الإسباني في أبعاده القانونية والسياسية

من حيث الحمولة القانونية، الاعتراف الإسباني بمقترح الحكم الذاتي، تطور كبير و جذري في رؤية الإسبان لنزاع الصحراء، لأول مرة يتضمن قرار اسباني رسمي الإنتقال إلى صيغة متقدمة من الإعتراف بسيادة المغرب على الصحراء. منذ بدء النقاش القانوني داخل اللجنة الخاصة/اللجنة الرابعة وفي جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي جلسات مجلس الأمن منذ 1975، عرفت المواقف الإسبانية تطورا في توظيف المصطلحات القانونية، كما تضمنتها آلاف الوثائق من أرشيف الأمم المتحدة حول نزاع الصحراء، ومن “أرض خلاء”، إلى الاعتراف بالمغرب طرفا مهتما ثم معنيا، إلى تسليم الصحراء إداريا إلى المغرب في فبراير 1976، إلى الدعوة إلى حل سلمي في إطار الأمم المتحدة، ليصل القطار الاسباني أخيرا إلى إقرار و اعتبار مقترح الحكم الذاتي ” الأساس الأكثر جدية و واقعية و مصداقية من أجل تسوية الخلاف حول الصحراء”. إنها نهاية مرحلة من حيث المرجعيات القانونية للمواقف الإسبانية تجاه نزاع الصحراء، مرحلة امتدت على ستة عقود كاملة.

من حيث الحمولة السياسية ، كان الخطاب الملكي بمناسبة ثورة الملك والشعب، يوم 20 غشت 2021، إعلانا لإسبانيا و فرنسا ببدء مرحلة جديدة تروم بناء استراتيجية مشتركة لمواجهة التحديات المقبلة، وأعلن الملك أنه يتابع شخصيا مسار المفاوضات مع الإسبان، وهذا له دلالات سياسية على أن ملف العلاقات المغربية الإسبانية يحظى بعناية ملكية خاصة. تحدث الملك في خطابه عن قيم يجب أن تؤطر العلاقات المغربية الإسبانية، وهي الثقة والإحترام المتبادل والوفاء بالإلتزامات والشفافية من أجل بناء شراكات استراتيجية. وفي بيان رئاسة الحكومة الإسبانية تأكيدٌ للمفاهيم والقيم التي طرحها الخطاب الملكي. والرسالة الإسبانية إلى الملك محمد السادس وثيقة مكتوبة ستشكل مرجعا لبناء العلاقات المستقبلية، إنه التزام إسباني مكتوب.

ولا يمكن أيضا فصل قرار الحكومة الاسبانية الأخير، بالإعتراف بسيادة المغرب على الصحراء من خلال تبني مبادرة الحكم الذاتي، عن السياقات الإقليمية، خاصة العلاقات الإسبانية الجزائرية. من مكر التاريخ أن ما جرى بين إسبانيا و الجزائر في الفترة الممتدة من ماي 1975 إلى نوفمبر 1975 يشابه إلى حد ما ” التواصل الجزائري الإسباني” الذي جرى في أبريل 2021 بين الحكومة الاسبانية والواجهة المتحورة الجديدة للنظام الجزائري، عند تدبير إدخال بن بطوش إلى التراب الاسباني، و إطلاق تصريحات من لدن مسؤولين اسبان بأن اسبانيا لن تعترف أبدا بسيادة المغرب على الصحراء، بيد أن 10 أشهر خلت كانت كافية لتحول هام في الموقف الاسباني بالاعتراف أخيرا، وبعد 60 سنة من وضع المغرب طلبه بتصفية الإستعمار داخل اللجنة الخاصة، بسيادة المغرب على الصحراء انطلاقا من مقترح الحكم الذاتي، حيث الفكرة الجوهرية فيه هو احتفاظ المغرب بالسيادة الكاملة على الصحراء، وتفويض التدبير المحلي لمؤسسات منتخبة. ومشروع الحكم الذاتي له أبعاده القانونية والسياسية والمجالية، يريد المغرب من خلاله تطوير نظامه السياسي إلى الجهوية واللامركزية واللاتمركز.

في القمة الإفريقية الأوربية الأخيرة بباريس جرى الحديث، و بنكهة خاصة، عن العلاقات المغربية الإسبانية، في سياق إمكانية تشكيل قاطرة إفريقية أوربية من المغرب و اسبانيا بحكم القرب الجغرافي و رمزية ملتقى القارتين، و طرح حينها رهان كبير على 81 دولة إفريقية وأوربية لتجويد العلاقات بين قارتين، ولم يستسغ كثيرون حوار قارتين في سياق أزمة/توتر بين دولتين تشكلان في نفس الوقت جسرا لأوربا وإفريقيا. كان إذن على اسبانيا أن تختار في ظل التهديدات المحيطة بأوربا ومسؤولياتها الإقليمية في حماية حدود أوربا المتوسطية، واعتماد حلفاء استراتيجيين عوض الارتباط بدبلوماسية المناسبات في قضايا أصبحت جوهرية لاسبانيا ولأوربا. التحول” التاريخي” في الموقف الاسباني تجاه نزاع الصحراء مرتبط كذلك بسياقات اسبانية داخلية وبالخريطة الجيوسياسية الجديدة في المنطقة التي يحتل فيها المغرب مكانة متميزة، وشرح المسؤولون الاسبان ذلك بإسهاب بعد إعلان 18 مارس. الانتصار للحكم الذاتي المقترح من لدن المغرب، اختيار استراتيجي اسباني واضح.

أسس الموقف الاسباني

1- في رسالة رئيس الحكومة الاسبانية وما تلاها من تصريحات، يحيل الموقف الاسباني إلى : أ- السند الذي اعتمدته الحكومة الاسبانية بشأن موقفها الجديد، وهو أهمية قضية الصحراء بالنسبة للمغرب، وفي هذا اعتراف اسباني، من أن قضية الصحراء مقدسة لدى المغاربة. ب- التأكيد على مبادرة الحكم الذاتي، الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية. ج- التأكيد على الجهود الجادة وذات المصداقية التي يقوم بها المغرب في إطار الأمم المتحدة من أجل تسوية ترضي جميع الأطراف. ويبدو أن هذا المدخل موجه في الأصل إلى الطبقة السياسية والرأي العام في إسبانيا.

2 : التركيز على المشترك وتوصيف المستقبل، فالبلدان ، وفق الرسالة، ” تجمعهما وبشكل وثيق أواصر المحبة والتاريخ والجغرافية والمصالح والصداقة المشتركة والمصير المشترك…”، وأن ازدهار المغرب مرتبط بازدهار اسبانيا والعكس صحيح…”، والهدف هو بناء علاقة جديدة تقوم على الشفافية والتواصل الدائم والاحترام المتبادل…”، وهي نفس المصطلحات التي وردت في الخطاب الملكي يوم 10 غشت 2021، وتحدثت الرسالة عن احترام الاتفاقات الموقعة بين الطرفين، دون تحديد تاريخ، فهل هذا يعني الاتفاقات المبرمة بين البلدين منذ أبريل 1956؟ و الإمتناع عن كل عمل أحادي الجانب، وبناء علاقات جديدة في ” مستوى أهمية ما نتقاسمه”.

3 : التزامات اسبانيا تجاه المغرب، من أنها ستعمل ب”كل الشفافية المطلقة الواجبة مع صديق كبير وحليف وستحترم على الدوام التزاماتها وكلمتها…”. في هذا الركن الثالث جملة تسترعي الانتباه وتعطي للاعتراف الاسباني بعده السياسي والاستراتيجي، ويتعلق الأمر ب” العمل من أجل ضمان الإستقرار والوحدة الترابية للبلدين”، لكن الاسبان قد يقرأونه بشكل آخر.

وماذا بعد؟

هل سيستمر موقف الحكومة الاسبانية مدافعا عن مبادرة الحكم الذاتي بعد الانتخابات المقبلة؟ الأكيد أن الحزب الاشتراكي ما كان يتبنى موقفا تجاه نزاع الصحراء دون استحضار مصالح اسبانيا في ظل العلاقات الثنائية بين البلدين، وفي سياق الحروب الجديدة داخل أوربا. ربما هذا ما يفسر تصريحات إعلامية لمسؤولين اسبان من ثقل المصالح الاسبانية في المغرب ، الشريك الاقتصادي الأوربي الأول للمغرب، كما أن اسبانيا لا تريد التفريط في أهمية سلامة مضيق جبل طارق، وهي مهمة مشتركة مغربية اسبانية دون نسيان دور البرتغال وابريطانيا. إن القرار الاسباني حصل نتيجة حوار ” صريح ومسؤول” بين البلدين، وهو ما يفسر بلاغ الديوان الملكي وتصريحات وزير خارجية المغرب حول الموضوع وعودة سفيرة المغرب إلى مدريد. وأن المصالح المشتركة تستدعي التزامات مشتركة لمواجهة التحديات، خاصة لدى اسبانيا في أفق تحالفات سياسية اسبانية داخلية جديدة، إذ يتأكد أن بوديموس الذي فقد بريقه الانتخابي، سيحاول الركوب على موقف حكومة بيدرو سانشيز لتخزين العداء التاريخي لأطراف اسبانية تجاه المغرب، لكن وجود حزب فوكس اليميني، الذي يعزف أيضا على نفس الوتر قد يقلل، من خلال تنافس الحزبين المتطرفين، من توظيف ورقة العداء تجاه المغرب، ومهما كان توظيف اليمين واليسار المتطرف لمواقف سلبية ضد المغرب سيكون الأمر في نهاية المطاف لصالح الحزبين الاشتراكي والشعبي، وكلاهما يحتضن شخصيات لعبت أدوارا تاريخية في التقارب مع المغرب، فهل سيخطو المغرب ، عبر ما يسمى بالدبلوماسيات الموازية ، نحو الحزب الشعبي أيضا لضمان استمرار الموقف الاسباني قويا للسنوات المقبلة؟ هل سينفتح المغرب سياسيا وجغرافيا وبسرعة تجاه اسبانيا، أم يتبنى الخطوة خطوة؟ هل ستكون زيارة وزير الخارجية الاسباني إلى المغرب المقبلة، لوضع خارطة طريق جديدة، بداية عملية للمرحلة الجديدة؟ أم إعلان أولى للنوايا في طريق بناء الشراكة الاستراتيجية الجديدة؟ وحدها الأيام القادمة كفيلة بتقديم عناصر الإجابة لهذه التساؤلات.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x