لماذا وإلى أين ؟

عن “مؤثري خوارزميات” بنموسى

أثار اللقاء الذي جمع وزير التربية الوطنية بعدد من الأشخاص ممن يوصفون، حسب المصطلحات الرائجة في الوقت الراهن، بالمؤثرين، مجادلات و نقاشات تراوحت في معظمها بين مواقف إيجابية من سلوك الوزير و أخرى ذات منحى نقدي، و بالطبع فكل موقف من هذه المواقف يستند على حجج متباينة و على مرتكزات قد تكون ذات أصول حقوقية أو سياسية، أو ربما حتى دينية، لكن ربما لم تبلغ تلك النقاشات مستوى التحليل الموضوعي المتجرد من تأثيرات ما هو ذاتي، أي مناقشة حالة (الوزير شكيب بنموسى) كصورة يمكن اعتبارها تعكس بشكل ما تطورا قد بدأ يطبع مجال التواصل و التبليغ في سياق ممارسة السلوك السياسي، أو ربما حتى الإداري أيضا.

لذلك فإن لقاء الوزير بأولئك “المؤثرين”، يستحق وقفة تحليلية عبر مناقشة عنصريها الأساسيين و هما على التوالي، الوزير كشخص عمومي ممارس للسياسة، من جهة، و مجموعة من الأفراد من خلفيات معرفية متنوعة، تجمعهم خاصية (التأثير)، بالنسبة للجمهور من جهة أخرى.

و حتى يستجيب تحليل موضوع مثل موضوع (المؤثرين) من خلال حالة (وزير التعليم)، للحدود الدنيا من الموضوعية و الحياد الإيجابي اللازم للتعامل معه و تحقيق أقصى قدر ممكن من الموضوعية، يلزم في البداية الرجوع إلى الجذر اللغوي الذي اشتق منه اسم (مؤثر)، و هو بالطبع فعل أثّر، وذلك قبل التطرق للمفهوم المتشكل في ذهنية المجتمع عن شيء اسمه وظيفة “التأثير” و أدواره المحتملة في ظل التناقضات و الصراعات المجتمعية التي تعتبر مسألة طبيعية داخل المجتمعات البشرية .

جاء في لسان العرب أن التأثير هو إبقاء الأثر في الشيء، و أثّر في الشيء ترك فيه أثرا، و الآثار الأعلام، و الأثـيرة من الدواب: العظيمة الأثر في الأرض بحافرها، و الأثرُ : بقية الشيء، ويجمع على آثار و أثور.

و إذا كان المعنى اللغوي المستفاد من كلمة “تأثير” واضحا بالقدر الكافي للدلالة على إحداث تغيير فعلي و معين، كمِثْلِ الأثر الذي تُحدثه الدابة بحوافرها على الطريق، فهل تحمل كلمة “تأثـير” أيضا نفس الوضوح عند استعمالها لوصف نتائج معينة تجري نِسْبتُها لفِعْل مجموعات من الأشخاص ممن يطلق عليهم، في الأوساط المختلفة، وصفُ “المؤثرين” بسبب نشاطهم على منصات التواصل الإجتماعي المختلفة و طرح قضايا أو مسائل من أصناف متعددة تستأثر بدرجة معينة من اهتمام المتا.

وباعتبارها معطى جديدا أصبح يحتل مركزا متطورا و متقدما في الحياة الاجتماعية للبشر بمختلف المجتمعات البشرية، فإن وسائط التواصل الاجتماعي، كظاهرة جديدة أنشأها التقدم التقني و المعلوماتي، يمكن النظر إليها كمنتوج متعدد الوظائف تتقاطع فيه جملة من المكونات، الذاتية و الموضوعية، تعمل بشكل دائم على إعادة تشكيل الوعي البشري .و ككل منتوج مجتمعي، فإن كيفية اشتغال وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، فإنه يتدخل بشكل يكاد يكون آليا في ديناميكا المجتمع على مختلف مستوياته الأخلاقية، الدينية، السياسية و الاقتصادية، أي أنه يتحول إلى عنصر فاعل في إنتاج المعرفة و البنية الفوقية، بحيث يشكل فيه من يطلق عليهم وصف “المؤثرين” الأداة المحورية في العملية.

إن جماعة ” المؤثرين” باعتبارهم هم أيضا موضوعا للتأثير، لا يتمتعون بخاصية الإستقلال و البعد عن مراكز التأثير المضاد الذي يلحق بهم، ولذلك فمن الطبيعي أن يتطلع الجميع إلى كيفية التعامل مع “ظاهرة المؤثرين” من زوايا مختلفة، فرجل الدين ينظر إليها من خلال الضوابط التي يعتقد أنها من صميم الشريعة، و رجل الإقتصاد ينظر إليها من وجهة نظر نفعية و إلى كيفية توظيفها كأداة تساعد على صناعة و تحقيق الربح و منع الخسارة، أما السياسي، بحكم قواعد التطور التي تفرض نفسها على حياة المجتمعات و تتتسرب إليها بشكل تلقائي وطبيعي، بصرف النظر عن أحكام القيمة التي تنشأ عنه في فكر الناس، فإنه (أي السياسي) يسعى بالتأكيد لتوظيف هؤلاء “المؤثرين”و الإستفادة مما يعتقد أنه “تأثير” قوي يؤدونه في صناعة الرأي العام تجاه مسألة معينة من المسائل، أي أنه ينظر إلى المعطى المتمثل في “ظاهرة المؤثرين” كوسيلة من وسائل حشد المناصرين و توسيع دائرة المؤيدين وهو ما يعتبر غاية جوهرية بالنسبة لعمل رجل السياسة، بمعنى أنه  يسعى للإستفادة ممن يعتقد أنهم “مؤثرون”، لكن حقيقة اعتبار فئة معينة من الناشطين في مواقع “التواصل الإجتماعي” بكونهم “مؤثرين”، لا تتم قطعا بناء على دراسات موضوعية ذات منحى علمي، بل يتم تقريرها بناء على معطيات إحصائية تتم معالجتها عن طريق القواعد الخوارزمية المعتمدة في المنصات و المواقع الرقمية و الإفتراضية، التي تعتبر بدورها آلية مؤثرة و متأثرة، لكنها، في الوقت نفسه، تخضع، وهذا هو الأهم، لإرادة مالكيها الحقيقيين و مسيريها الواقعيين،

إن الاستعانة بمن يعتبرون (مؤثرين) في مجال السياسة لترويج سياسات معينة، ليست وليدة اليوم، بل هي نمط من السلوك المجتهد الذي ارتبط بنشوء و تطور المجتمعات اللبرالية الحديثة في الغرب، و بشكل أكثر وضوحا في الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال الاعتماد على المشاهير من رجال و نساء الفن، خصوصا مع ظهور  اختراعات حديثة غيرت حياة الإنسان، كما حدث مع جهاز الراديو أو التلفزة .

لكن التساؤل الذي يطرح نفسه هو، هل كان الوزير بنموسى موفقا في اختيار هؤلاء ” المؤثرين” الذي استمعوا إليه ؟ و هل بإمكان هؤلاء أن يقدموا خدمة للقضايا التي يعتبر بنموسى أنه يشتغل من أجل حلها؟ أم أن هؤلاء “المؤثرين” سيتأثرون بجلسة الإستماع التي خصصها لهم الوزير بنموسى و ينضموا تبعا لذلك لدائرة “المتأثرينّ بعد أن صنفتهم الخوارزميات ضمن دائرة “المؤثرين”؟

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها.

 

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x