لماذا وإلى أين ؟

تأثــير القـادة في صنــاعة القــرار

عادل بنحمزة

دخل العالم منذ بداية العام نفقاً مظلماً لا ضوء في نهايته نتيجة لقرار الحرب الذي أعلنته روسيا على أوكرانيا، الروس يقولون إنهم يذهبون إلى الحرب دفاعاً عن أمنهم الاستراتيجي، بعدما أخل الغرب بالتزاماته بعدم توسع حلف الناتو شرقاً وإصراره على ضم أوكرانيا، الغرب يعتبر التبرير الروسي مساً بسيادة أوكرانيا وبحقها في اتخاذ قرارها الأمني. الدفع بهذا الخلاف الروسي الغربي إلى حدود الهاوية وإلى حافة حرب عالمية ثالثة يدفع الجميع في العالم فاتورتها من دون خوضها ومن دون أن تكون معبرة عن مصالح الجميع، يظهر طبيعة القادة في العالم اليوم الذين يتخذون قرارات مصيرية تتجاوز آثارها بلدانهم وشعوبهم، هذا الأمر يجعلنا نسائل مفهوم القادة وتأثيرهم في عملية اتخاذ القرار.

يعرف هاري ترومان الرئيس الأميركي الأسبق القيادة بقوله: “القيادة هي القدرة على ترغيب الرجال بالقيام بما لا يرغبون في القيام به”، بينما يرى عمر برادلي، وزير الدفاع الأميركي الأسبق، أن القيادة هي “فن التأثير في السلوك البشري من خلال القدرة على التأثير في الناس مباشرة ودفعهم للعمل على هدف ما”، وهو رأي يتفق مع آراء كل من كونتز وأودنل Contez & ODNEL القائل بأن “القيادة هي القدرة على إحداث تأثير في الأشخاص عن طريق الاتصال بهم وتوجيههم نحو تحقيق الأهداف”، وآرثر ويمر..ARTHUR WEMER الذي أكد أن “القيادة هي القدرة على التأثير في الآخرين”، وهو رأي هايمان وهيلجرت… HAYMAN & HILGERT نفسه أي “القدرة التي يمتلكها الفرد في التأثير في أفكار الآخرين واتجاهاتهم وسلوكهم”، بينما يرى بيترف دراكر PETER F. DRUCKER أن القيادة هي “الارتفاع ببصيرة الإنسان إلى نظرات أعمق، والارتفاع بمستوى أدائه إلى أعلى المستويات”، أما آرثر جاغو فيرى أن القيادة “عملية ومَلَكة في الوقت عينه. فالقيادة كعملية هي استخدام التأثير غير الملزم في توجيه أنشطة الأفراد وتنسيقها في جماعة ما لتحقيق أهداف محددة… أما القيادة كملكة فهي سمة يتمتع بها الأشخاص الذين ينجحون بتوظيف هذا التأثير” أي التمييز بين القيادة كنشاط والقيادة كسمة شخصية لدى الفرد، كأن نقول بأن فلاناً له ميولات قيادية.

بحسب التعريفات السابقة، نرى أن القيادة تتحقق بالقدرة على التأثير، وهذه القدرة ترتبط بالتاريخ الشخصي للقائد وتوازنه النفسي والعاطفي، إذ غالباً ما تؤثر هذه الجوانب في عملية اتخاذ القرار، سواء على المستوى الداخلي أم الخارجي، والقيادة عند رجل السياسة ليست دائماً مهمة رسولية تتسم بالتضحية ونكران الذات، بل هي قد تشكل طموحاً شخصياً، أو في حالات، استجابة لواجب وطني يقتضي الوصول إلى السلطة، سواء عن طريق الانتخابات وصناديق الاقتراع، أم عن طريق الانقلاب أم الثورة، فالسياسة كما يقول الكاردينال دو ريتز، “هي فن جني الشرف من الضرورة…”، فانتظام المجتمع في إطار الدولة ومؤسساتها وتحت قيادة معينة هو شكل التنظيم السياسي الذي ارتضته المجتمعات الإنسانية المختلفة منذ عصور، وهذا الشكل يمثل ضرورة لا يمكن تجاوزها، رغم المخاطر التي تهدد مفهوم الدولة في المرحلة المعاصرة، كما أن الحاجة إلى القادة، أمر ثابت منذ زمان وعبر كل الحقب التاريخية التي طبعت الإنسانية، وفي ذلك يقول راسل إن “معظم الناس يشعرون أن السياسة قضية صعبة، وأنه من الأفضل لهم أن يتبعوا قائداً، إنهم يشعرون بذلك غريزياً ودون وعي…”.

إن نظريات القرار على اختلاف مرجعياتها وسياقاتها التاريخية، تؤكد جميعها الطابع المعقد لصناعة القرار، وهي بصفة عامة، لم تستطع أن تضع نموذجاً متفقاً عليه، مع العلم أنها اتسمت في غالبيتها بطابع معياري، هذا الوضع هو بمثابة حدود واقعية لنظرية القرار، ما يفرض في غياب الإطار التجريبي في علم السياسة، تفكيك عملية صناعة القرار أو عمليات صناعة القرار، وهي عملية معقدة باعتبار أن القرار هو فقط رأس قمة جبل الجليد، بينما الجزء الأكبر من الجبل يكون مغموراً في العمق، وهنا يتضح الدور الهام الذي يلعبه القادة في صناعة القرار، فهم يوجدون داخل الغرف المغلقة لصناعة القرار وفي الواجهة لاتخاذه وإعلانه والدفاع عنه وتحمل المسؤولية عن آثاره، وهذا الأمر يشمل الدول التي تتمتع بقدر من الديموقراطية وأيضاً تلك التي تحكمها أنظمة دكتاتورية أو سلطوية، إذ أثبتت التجربة التاريخية أنه في جميع الحالات هناك دور مركزي لافت للقائد في عملية صنع القرار، فالتاريخ يؤكد لنا أن كثيراً من الحوادث الكبرى العسكرية والسياسية والاقتصادية كانت نتيجة لقرارات صادرة عن قادة سياسيين، كان لشخصيتهم بصمة قوية في تلك القرارات، هكذا خلد التاريخ قادة ضمن أنظمة شمولية مثل ستالين وماو تسي تونغ وتيتو وغيرهم، وقادة آخرين من المعسكر الديموقراطي كديغول وروزفلت وتشرشل، ففي دائرة السلطة هناك دائماً مناطق معتمة لا يتسنى للجميع الوصول إليها، وفي تلك المناطق يكون للقائد السياسي دور حاسم لأنه يرتكز في ممارسته السلطة على طبيعة الشرعية التي يتمتع بها، سواء كانت شرعية ديموقراطية أم شرعية ثورية.

يرتبط مفهوم القيادة في التحليل السياسي ارتباطاً قوياً بمفاهيم السلطة والقوة والنفوذ التي يحوزها القائد أو المجموعة التي تمثل القيادة، إذ لا يمكن تصور قيادة تفتقد السلطة والنفوذ، بخاصة في اللحظات المفصلية والحرجة في حياة الشعوب، فسيدني هوك يقول إن “مصير الشعوب يبدو في فترة الحروب والثورات معلقاً بوضوح بما يقرره شخص واحد وربما أشخاص قلائل…”، فالقادة يطبعون حياة الدول بالقرارات التي يتخذونها، بغضّ النظر عن الآليات والأساليب التي يستعملونها، بما في ذلك الكذب على شعوبهم وعلى العالم لتبرير قرارات معينة.

نستحضر هنا مثلاً ما قام به الرئيس جورج بوش الابن وإدارته من صنع كذبة امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، وذلك لتبرير إعلان الحرب عليه، فقد تابع العالم كيف قدم كولين باول وزير الخارجية في تلك الفترة صوراً وخرائط في مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار أممي يعطي الشرعية للتدخل الأميركي، وقد تبين بعد الغزو أن كل ذلك كان مجرد أكاذيب، ومن هنا تأتي أهمية المذكرات السياسية التي يكشف فيها القادة ورجال الدولة عن الخفايا الحقيقية والخلافات التي حكمت اتخاذ قرارات معينة في مراحل من التاريخ، كما نجد أن كثيراً من الدول تحدد سقفاً زمنياً عالياً لرفع السرية عن وثائق تتعلق بحوادث ووقائع معينة، وهو ما يعني حساسية تلك المعلومات حتى بعد سنوات طويلة.

نخلص بذلك إلى أن القائد وهو يمارس الوظيفة القرارية في الدولة، فإنه يفعل ذلك متأثراً بتاريخه الخاص وأيضاً بالتاريخ الجماعي لأمته ومنظومة القيم التي تؤطرها، لذلك فعملية فهم ما يجري اليوم في العالم وما يتهدده جدياً من مخاطر اقتصادية وسياسية وعسكرية وبيئية، لا تتحقق من دون القدرة على المعرفة الدقيقة بالقادة الأكثر تأثيراً في الحوادث، وبصفة خاصة الثلاثي جو بايدن، فلاديمير بوتين وشي جين بينغ، صحيح أن التأثير الفردي للقادة لا يلغي صراع المصالح الموضوعي بين هذه القوى، لكن تدبير الصراع وطبيعته يحضر فيه دور القادة حضوراً لافتاً.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.

 

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x