لماذا وإلى أين ؟

من أفعال السَّــرقة “المُــنظَّـــمة” !

محمد العطلاتي

أثارت مقتضيات مشروع القانون المالي للسنة القادمة الذي أعدته الحكومة في الآونة الأخيرة احتجاجاتٍ و اعتراضاتٍ غير معتادة من قِبل هيئات مهنية و منظمات مدنية أخرى، و ذلك بسبب اعتبار الجِهات المُحتجَّــة أن ما ورد في مشروع الميزانية المذكور لا يكرس العدالة الجبائية بل يهدف، في الواقع، إلى زيادة حجم الإنهاك الضريبي المستهدف لفئات و طبقات معينة من المجتمع، و على النقيض من ذلك، التمسك بالتساهل و التغاضي عن اتخاذ تدابير جبائية فعالة بإمكانها التصدي لمقاولات تحقق أرقام معاملات ضخمة و تُحصِّلُ منها أرباحا طائلة.

لا أحد ينكر أن التهرب الضريبي، الذي يسلك المُلـــزَمون طريقه، سواء كأفراد ذاتيين أو كمؤسسات منظمة، أصبح عادة مستفحلة، بل آفة تنهك قدرة الدولة على الإستثمار العمومي و ممارسة الإختصاصات الموكولة لها، لذلك يفترض في الحكومة، أية حكومة، اتخاذ سياسة ضريبية عادلة و محاربة للتملص الضريبي الذي اعتاد الناس على اعتباره تصرفا حكيما و معقولا، رغم أنه سلوك  يضرب في مقتل كل مبادئ العدالة و المساواة.

لا شك أن القطاعات الإقتصادية  التي توصف بكونها  قطاعات غير مهيكلة، بما فيها تلك التي يعتبرها الجمهور مهنا تافهة و حقيرة، تحقق أرقام معاملات محترمة، بدءا من محترفي التسول و انتهاء بحراس السيارات في الشوارع و مرورا بباعة التقسيط، لكن ذلك كله لا يحقق لخزينة الدولة أي عائد ضريبي، بل المثير في الأمر أن هؤلاء جميعهم، يستفيدون في أنشطتهم التجارية غير الخاضعة للرقابة أصلا  باستعمال مواد تدعم الدولة أسعارها باعتمادات ضخمة، كما هو الحال بالنسبة لغاز البوطان و السكر و الدقيق و الزيوت وغيرها من المنتجات الاستهلاكية.

من حق الدولة، بل من واجبها، مراجعة هذا الوضع، الذي يمكن أن يوصف بكونه وضعا ماليا منفلتا تمام الانفلات، باعتماد القوانين و التدابير الملائمة التي تحفظ حقوق المالية العمومية في تحصيل الضرائب و الجبايات و تحقيق التوازنات المالية المطلوبة بالنسبة لإدارة مصالح المرتفقين و مصالح  المجتمع.

لكن، بالرغم من ذلك، فإن القطاع غير المهيكل لا يشكل المنفذ الوحيد لإضعاف العائدات الضريبية التي يفترض أن تُحصَّـل لفائدة خزينة الدولة من حساب عامة الملزمين، ذلك أن أرقام المعاملات التي تحققها بعض المقاولات لا تعكس فعلا حقيقة و حجم المعاملات الفعلية التي، ربما تجري في سرية مخطط لها بشكل مسبق، كما هو الحال في الأنشطة المتعلقة ببناء المركبات و الدور السكنية، إذ بالرغم من سلوك المساطر المعهودة في بيع العقارات، على سبيل التمثيل، من طرف صاحب المقاولة، كإبرام عقد الوعد بالبيع و دخول الموثق على الخط و تحرير الرسوم بمعرفته، إلا أن ذلك له لا يعفي المشتري الواحد من دفع مبالغَ تعد بملايين السنتيمات، لكن ليس بشكل مكشوف و خاضع لنظام محاسبي دقيق، بل يتم ذلك بالشكل المعروف لدى اللصوص بطريقة “تحت الطاولة” أو ما يصطلح عليه لدى العارفين بقواعد الاحتيال، بـالمجال “الأسْــــــــوَد”، و هذا الذي يجري بشكل معتاد في الأوساط المعنية بهذا النوع من التجارة الخالية من الأخلاق و المنافية للقانون، يؤدي بالضرورة  لمضاعفة الأغنياء المحتالين لمكاسبهم غير الشرعية إلى أقصى الحدود، فيما تضيع خزينة الدولة في أضعاف ما كسبه المقاولون النصّابون.

طرق النصب و سرقة أموال الغير، التي لا تثير انتباه العامة من الناس، لا تقف عند هذا المستوى من الدناءة و السفالة، بل تتخذ أشكالا “نظامية” لكن خارج دائرة القانون و خارج مدار  الأخلاق، كمثال على هذه التصرفات المحتالة على جيوب المواطنين و على خزينة الدولة، ما تقوم به أسماء وعلامات تجارية معروفة لدى العموم، فتلك المؤسسات لا توفر في صناديقها المخصصة لأداء قيمة مبيعاتها القطع النقدية بكل فئاتها، بل تكتفي بقطع الخمسين سنتيما و الأعلى منها، و هكذا، إذا قام المشتري باقتناء بضاعة ثمنها المعلن عنه هو 7 دراهم و 75 سنتيما، فإنه في الواقع يؤدي 8 دراهم، ولا يسترجع مطلقا الـــ 25 سنتيما المستحقة له بدعوى عدم التوفر على القطع النقدية الأقل من 50 سنتيما، و يحدث هذا آلاف المرات في اليوم الواحد بالرغم من أن المصرف المركزي لم يعلن أبدا عن سحب هذه القطع من التداول بشكل رسمي، و لك أن تحسب، بالنتيجة، المبالغ الضخمة التي تتم سرقتها يوميا بطريقة “فنية” من طرف هذه العلامات التجارية المعروفة، و هي بالتأكيد مبالغ لن تدرج أبدا  ضمن الجداول المحاسبية للشركة المعنية، و لن تكون بالطبع موضوع محاسبة ضريبية من أي جهة، إنه مما يعتبر دون شك فعلا  حقيقيا من أفعال السرقة “المنظمة”.

الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

 

 

 

 

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

1 تعليق
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
احمد
المعلق(ة)
25 نوفمبر 2022 13:31

الفساد اكبر كثيرا مما قلت، ويمس ميزانيات دول بعينها، كشفت عنها تقارير مجلس الحسابات نفسه، وشهد شاهد من اهلها لكن الكل يتسائل عن الجزاءات، وما خفي اعظم.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x