لماذا وإلى أين ؟

تضــخم المـؤسسات ؟

محمد العطلاتي

لعل أبرز المؤشرات الدالة على فشل الاقتصاد الوطني في مسايرة ركب التطور المتسارع الذي يعرفه العالم الحديث، مؤشرُ تضخم ما يعرف بالقطاع الثالث، و هو قطاع متعارف عليه، بين الباحثين في الاقتصاد، بكونه مصدرا لإنتاج الخدمات المختلفة لعموم المستهلكين، كخدمات الإطعام و الترفيه و النقل و الاتصال ونحو ذلك، و هو، بهذا المعنى، يعتبر نشاطا غير منتج للثروة المادية، كما الحال بالنسبة لقطاعي الصناعة و الفلاحة اللذين يقدمان للمستهلك منتوجا جاهزا للاستهلاك أو موجها للتثمين، و هي الميزة الاقتصادية التي جعلتهما على التوالي يُصنفان كقطاع أول، بالنسبة للصناعة، و قطاعا ثانيا في درجة الأهمية بالنسبة لنشاط الفلاحة.

الحالة الاقتصادية في المغرب، وفق التقارير الدولية و الوطنية، تشير إلى ترنح الاقتصاد المحلي و احتمال انهياره الكامل، مع ما قد ينتج عن ذلك تداعيات أوخم، فالثابت أن اقتصاد المغرب يعاني خللا جسيما في ميزان الأداءات، إذ يعرف حالة انعدام توازن مهولة بسبب الارتفاع المطرد في لائحة الواردات، و حصول انخفاض مماثل له على لائحة الصادرات المغربية نحو الخارج.

الحالة المسجلة بالبلد، و هي حالة تبعث على القلق و التوجس لدى مختلف طبقات المجتمع، دفعت السلطة الحاكمة إلى ممارسة نوع من النقد تجاه ما عُرِّفَ بكونه “نموذجا تنمويا” سبق للمغرب أن شرع في تنفيذ مقتضياته منذ فترة، و بصرف النظر عن مدى صحة هذا الوصف المتعلق بالتدابير و التوجهات التي تبنتها السلطة الحاكمة، و مدى اعتبارها فعلا تنمويا حقيقيا، فإن هذا “النموذج” كان أيضا موضوع نقد من طرف مؤسسة الملك، باعتبارها رأس السلطة التنفيذية، و هو ما دفع باقي السلطات في هرم الدولة إلى التسليم بالأمر و اعتباره ملهما لها للبحث عن مخرج جديد قد يفضي للعثور على “نموذج تنموي” جديد، لا تعرف لحدود اللحظة أسسه النظرية أو قواعده الإجرائية و ما إذا كان مشروعا قابلا للوثوق به، أم أنه مجرد هرطقات متتالية في تاريخ حكومات البلد.

الواقع أن المغرب، كبلد جرى تسويق صورة “استثنائية” عنه، لاسيما بعد مَنْحِه دستورا جديدا قبل أزيد من عقد من الزمن، بإمكان المُشاهد البسيط أن يندهش من ضخامة و حجم المؤسسات التي أبدعها الدستور الجديد، حتى إن الأمر يبدو كصورة لمدينة أفلاطون الفاضلة، فقد بلغ عددها رقما عاليا في سلم الديموقراطية العالمية، ففي باب السلطة القضائية أفرد الدستور ثلاثة مجالس إضافة للمحكمة الدستورية، و لغاية حماية حقوق الإنسان و النهوض بها، أنشأت الوثيقة الرسمية مجلسا للحقوق و آخر للجالية و هيئة مكلفة بالمناصفة و محاربة التمييز قبل أن تضيف للوجود مؤسسة أخرى تختص في شيء اسمه الوساطة. و في باب “الحكامة” صنع المشرع الدستوري مجلسا للمنافسة و هيئة وطنية للنزاهة و الوقاية من الرشوة و أخرى للاتصال السمعي البصري، أما في الباب المتعلق بالنهوض بالتنمية البشرية فقد اخترع الدستور، الذي يصفه اليسار بالممنوح، ثلاثة مجالس تختص، على التوالي، بالتربية و التكوين، و الأسرة و الطفولة، إضافة للشباب و العمل الجمعوي !

الأسئلة المسكوت عنها، التي تبدو للمتلقي البسيط و تنتصب أمامه كعفريت من الجن، تقول: كم تكلف هذه المجالس و الهيئات من رصيد الخزينة العامة الدولة؟ و هل يتناسب ما تستنزفه من موارد الدولة مع ما يفترض أن تحققه من تطوير و تنمية لمجال اختصاصها؟ و هل تؤدي بالفعل تلك الوظائف “المبهمة” التي خلقت من أجلها ؟ و هل يسعد عموم الجمهور في معاشه بأدائها؟ أم أن الأمر جميعه لا يُعد سوى صورة من صور حالة تضخم المؤسسات ؟

الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

1 تعليق
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
محمد أيوب
المعلق(ة)
5 فبراير 2023 08:12

انه الريع:
ليس تضخم المؤسسات فقط،بل هو ريع موجه لاستقطاب النخبة الحزبية والنقابية والجمعوية من اجل تدجينها عبر جعلها تنخرط في امتيازات لا حصر لها تمكنها من جمع الثروة وتكديسها مقابل تقديم خدمات لاصحاب القرار…وما ورد في المقال من إشارة إلى كون اليسار يعتبر الدستور ممنوحا فانا،كمواطن عادي،أميل الى هذا،لانه ببساطة تم تجنيد مختلف الوسائل بما فيها منابر المساجد من اجل:”نعم”،بينما حرم من:”يعارضوه” من استعمال نفس الوسائل،كما ان نسبة:”نعم” المعلنة تحيل على أساليب مضت كانت تطبق في أنظمة سياسية معينة لا يعلو فيها صوت فوق صوت أصحاب القرار الفعليين…لست متشائما،لكن الإشارة بالمقال إلى الوضع الاقتصادي المتردي لبلدنا هي إشارة تنبئ بأن القادم سيكون سيئا للغاية على عدد كبير من فئات مجتمعنا اذا لم يبادر أصحاب القرار الى المسارعة لنزع فتيل الأزمة خاصة مع تصاعد العداء لنا من جارنا الشرقي الذي يفرض علينا توجيه امكانيات مالية ضخمة من اجل التسليح،فهو جار لا تؤمن بوائقه، ويسر على تصعيد عدائه لوطننا…فهل يستوعب أصحاب القرار ببلدنا الاوضاع ويكفوا عن مواصلة سياسة الريع؟سنرى…

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x