لماذا وإلى أين ؟

التكوين المهني من وصف ” البوهالي” إلى وصف ” الكفاءات”

محمد العطلاتي

” كغيره من المصطلحات، حظيت عبارة ” التكوين المهني” لشتى أصناف التأويل و الاستهزاء، إذ اعتُبر في عرف العامة، خلال بداية الثمانينات نوعا من التعليم في إنتاج “الحمقى”، و لذلك فإنهم حرفوا العبارة لتصبح، بدل التكوين المهني، مجرد “تكوين بوهالي”، وفق ما يذكره تلاميذ سابقون عاصروا فترة الثمانينات من القرن الماضي.
و لعل ظاهرة الانتقاص من المكانة الاعتبارية لطلاب و خريجي مؤسسات و معاهد التأهيل المِهْني لازالت رائجة في أوساط المجتمعات المتخلفة، كما هي سارية أيضا في المجتمعات الأكثر تقدما، فقد ذكرت تقارير إعلامية أن ما يعادل خُمُس التلاميذ في بريطانيا قيل لهم من مدرسيهم في أسلاك التعليم” إنهم أذكى من أن يلتحقوا بالتعليم المهني “، و هذا قد يعد دليلا على أن مسألة الأفضلية بين التعليمين المهني و الجامعي هي مجرد تقييمات تفتقد الموضوعية، و تنبني على حواجز نفسية أكثر من كونها مؤسسة على التحليل الواقعي و الاستنتاج المنطقي.
و أشارت إحصائيات حكومية سابقة إلى أن عدد الطلبة المسجلين في مختلف الجامعات المغربية العمومية بلغ خلال الموسم الجامعي 2018 – 2019 مليون طالب و هو، بحسب ملاحظين، رقم ضخم، ليس بالنظر إلى كونه يدل على حجم الطلبة الجامعيين و النفقات التي يجب تدبيرها، بل أخذا في الاعتبار طبيعة المواد و الشعب المسجلة و طبيعة المناهج المعتمدة في التعليم العالي، و بالتساؤل أيضا عما إذا كان الخريجون السنويون من أسلاكه بإمكانهم الانخراط في سوق الشغل بكل مستوياته وتلبية احتياجات القطاعات الانتاجية.

و يعتقد متابعون لوضع التعليم الجامعي بالمغرب أنه بلغ درجة من التضخم تحد من مردوديته و كفاءة خريجيه، لاسيما بالنسبة للمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح. فإذا كان المغرب خلال سنوات السبعينات و الثمانينات كان لا يزال يعاني من نقص في الموارد البشرية المكونة للاشتغال سواء في قطاعات التدريس أو الإدارة العمومية أو في سلك القضاء و المهن المرتبطة به، فإنه في الوقت الراهن في حاجة إلى كفاءات أخرى قادرة على تحقيق قيمة مضافة من شأنها التفاعل في تَوازِ مع التحول و النمو الذي باتت تعرفه القطاعات الإنتاجية، و ذلك ما لا يمكن أن تحققه أفواج الخريجين الذين لا تسمح الشهادات التي حصلوا عليها سوى بالالتحاق بسلك من أسلاك الوظيفة العمومية، و هو ما يشكل عبئا على الخزينة العامة دون طائل يذكر.

ويُرَجَّحُ أن يكون السبب وراء حرص و رغبة معظم التلاميذ في التوجه نحو الجامعات بدل مؤسسات أخرى للتكوين، عائدا لكونهم يعتقدون بأن “الطريق إلى النجاح هو عن طريق الالتحاق بالجامعات، و النتيجة هي أن الكثير من الخريجين يجدون أنفسهم بعد التخرج في وظائف هامشية بعيدة عن تخصصهم” و ذلك وفق ما وَضّحت أبحاثٌ أنْجَزَتها مؤسسة “إيدج فونديشن” البريطانية .

المغرب، الذي يعد بلدا سائرا في طريق النمو، يمكن القول إن برامج التكوين و التدريب المهني التي انطلقت من بداية الثمانينات قد ساهمت، ولو بشكل محدود، في توفير اليد العاملة المُؤهَّلة لمواكبة تطور الصناعات التي بدأت في الظهور مع اتخاذ المغرب أولى الخطوات في اتجاه تحرير الإقتصاد و خوصصة المنشآت الصناعية العمومية.غير أن مشاريع التكوين المهني ظلت، لأسباب متعددة، دون اهتمام مناسب من قبل الشباب مع انصراف معظمهم للاهتمام بالمؤسسات الجامعية ذات الطبيعة الأكاديمية.

إن التنمية المستدامة التي تسعى خلف تحقيقها معظم القوى السياسية الحية بالبلد لا يمكن أن تتحقق دون إيجاد سبل لخلق التوازنات عبر تشجيع القطاعات المنتجة، و هو أمر لن تتاح له فرص النجاح بشكل كامل بسبب نقص أو غياب الكفاءات المهنية القادرة على تخطي مراحل العمل اليدوي البسيط نحو مراحل التخصص التقني، و هو العمل الذي يقع على كاهل معاهد التكوين المهني التي يجب الاهتمام بها على المستوى الحكومي و العمل على تطوير أدائها بشكل أكثر ملاءمة لعروض التشغيل المتاحة التي تتجه نحو المزيد من التخصص و التنويع.
في وقت سابق أعلن عن إحداث مشروع مدن المهن والكفاءات باعتباره عمودا فقريا لخارطة طريق جديدة تهدف لتطوير التكوين المهني.و هو برنامج، قدم أمام الملك سنة 2019، سيكلف استثمارا ماليا بقيمة 3,6 ملايير درهم لإنجاز 12 مدينة للمهن والكفاءات على مستوى مختلف جهات المملكة.

الآن، بعد مرور سنوات على إعلان هذا البرنامج، تستعد “مدن المهن و الكفاءات” بطنجة لافتتاح أول موسم الدراسي لها في سبتمبر من العام الجاري، فهل ستكون برامج هذه المدن رافعة حقيقية لإنتاج المهن الملائمة و الكفاءات الكفيلة بتحقيق انتقال التكوين المهني من حالة “البوهالي” التي وصف بها في فترات سابقة إلى حالة ” الكفاءات” المرجوة؟

ذلك ما ستجيب عنه المواسم الدراسية المقبلة.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

1 تعليق
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
احمد
المعلق(ة)
18 مارس 2023 19:11

التكوين يجب بالاضافة الى تاهيله لخلق عمالة تقنية مؤهلة لمواكبة المعايير الدولية وقادرة على الاندماج في سوق الشغل الوطني والدولي، يحب ان يكون كدلك قاطرة لاعادة ادماج النجباء والادكياء والطموحين في التعليم الاكاديني والجامعي ويذلك يكون المغرب قد احسن الاستتمار في طاقاته الشابة.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x