لماذا وإلى أين ؟

عن التســـول !

لا شك أن العديد من قراء الصحف و المواقع الإخبارية لاحظ، خلال الفترة الأخيرة، نشر قصاصات أنباء تفيد في مجملها تمكُّن السلطات، في مناسبات متعددة، من ضبط أعداد متزايدة من الأشخاص، ذكورا و إناثا، وهم يمارسون التسول وذلك ليثبُت بعد ذلك امتلاكُ هؤلاء المضبوطين حسابات بنكية دائنة و كذا عقارات أو منقولات ذات قيمة مالية رفيعة، وهذا أمر يستحق، بكل تأكيد، أن يكون موضوع دراسة أكاديمية مختصة يكون باستطاعتها إثبات أسباب هذا التصاعد المثير في أعداد المتسولين، و طبيعة التطور الذي لحق نشاط التسول، رغم كونه فعلا مجرما بمقتضى قانون العقوبات، و ربما يكون باستطاعتها تقديم تفسير علمي-اجتماعي لتطور هذه الظاهرة و انتقالها إلى مستويات أكثر تنظيما و تعقيدا في المجتمع المغربي.

المجتمع المغربي، كباقي المجتمعات البشرية، يعرف وجود بناء اجتماعي يتمثل في الأنظمة و القوانين، كما يتمثل أيضا في تلك السلوكات الاجتماعية الخاضعة للنظم و القوانين، بشكل يجعل هذا البناء الإجتماعي يلبي احتياجات أفراده، لكن حالة المجتمع لا تستمر على حالة نمطية متكررة، بل إنها تتغير بحكم قواعد التطور، و التجمع البشري المسمى “مجتمعا” يقوم، على الدوام، وفق ما يسمى (المعايير الإجتماعية) بإنتاج السلوكات التي تصنف في خانة المرغوب فيه و تلك التي تعتبر ضمن دائرة المرفوض.

الثابت، من خلال المعطيات التجريبية و بواسطة الملاحظة المباشرة، أن سلوك الإنسان في منحاه الإجتماعي الصادر خلال تفاعله مع الوضعيات المختلفة التي يحياها في محيطه، هو، بالضرورة سلوك مكتسب، و ليس سلوكا وراثيا و فطريا، بل هو ممارسة يتعلمها الفرد من خلال الإحتكاك بمحيطه الإجتماعي القريب.

التسول، باعتباره سلوكا و تصرفا بشريا يختص به الإنسان دون غيره من الكائنات الحية، خضع، كغيره من الظواهر والسلوكات المحصورة في دائرة البشر، لقواعد سُنَّــة التطور و لقانون الإنتقال من مستوى بسيط إلى مستوى أكثر تطورا و تعقيدا من المستويات التي سبقته. كيف ذلك؟

بالرغم من أن ممارسة التسول ظاهرة بشرية قديمة و سلوك يحظى بالحد الأدنى من القبول لدى معظم الناس، إلا أن التطور الكبير الذي لحق هذا السلوك الطلبي من أكثر من ناحية قد يجعل منه موضوعا يستحق التمحيص و التفكيك بغية الخروج بأوصاف و نعوت جديدة لهذا السلوك البشري الهادف إلى تجميع الثروة دون الخضوع لأية رقابة قبلية أو بعدية. فما طبيعة التطور الذي لحق التسول و ارتقى به من مجرد فعل عرضي يسعى لسد حاجة معينة، إلى فعل احترافي يقوم على التخطيط و الإستثمار الذهني و الدراسة التوقعية.

في السابق، كان المتسول يفترش الأرض على باب سوق من أسواق البلدة أو يقعد على ناصية من نواصي زقاق من أزقة المدينة، منتظرا من ينفحه قرشا أو درهما،لكن الآن، و بفعل التطور الذي لحق فعل التسول، فقد ظهرت “طبقات جديدة و مجددة في فكر و ثقافة التسول”.

لم يعد المتسول منحصرا في الصورة النمطية السائدة عنه كشخص رث الهندام شاحب الوجه و التقاسيم، بل صار يبدو كممثل سينمائي في كامل أناقته، يتحدث إليك بلباقة و كياسة و يسرد لك قصصا من خياله الجامح تلخص لك ما أصابه من سوء الطالع و أنه ليس أهلا للتسول و المذلة و أنه رب عائلة و أن القدر أسقطه في ورطة، حتى تقتنع بأقواله و تأسف لحاله فتنفحه قدرا من المال يتناسب مع تلك الصورة البهية التي استطاع أن يصنعها عنه في ذهنك .
النساء بدورهن، استطعن تطوير أساليب و طرق التسول بشكل فريد وفعّال، فهن لا يعدمن القصص المؤثرة التي تجعل منك شخصا كريما معهن، و عادة ما تكون تلك الأحاجي مؤثثة بفريق من صغار الأطفال، لكن بإمكان الناظر إلى وجوههم التأكد أن لا رابط جينيَّ بينهم و بين من تدعي أنهم أبناؤها.

أما مُدعو العاهات و الأعطاب، فمذهبهم في التسول و النصب على إخوانهم الفقراء مذهبٌ سريع التقدم و التطور، فكم واحدا من هؤلاء المتسولين يضع نفسه في صورة تقول إن أكتافه مغلولة و أبصاره مفقودة و أقدامه مشلولة، لكنك قد تجده في موقع آخر من المدينة و قد زالت علته و تبدلت أحواله، حتى إنك لن تقدر على التأكد من هويته لفرط تنكره و ادعائه بما ليس فيه.

أما أولئك ممن يوظفون النصوص الدينية و الآيات القرآنية لأغراض استدرار عطف السابلة وانتزاع الدرهم من المارة، فقد انتهى بهم الحال إلى الإستعانة بالمنتجات التقنية و الأدوات المصنعة لإسماع صوت تلاوة الآيات و الخطب الحاثة على الرأفة بذي المسغبة و الاعتناء بعديم الحيلة، و بين تلك القصة الدرامية و هذه الحكاية الأليمة، يستمر هؤلاء النصابون في مراكمة أرصدة المال في غفلة من الجميع، و يستمر المغفلون في الوثوق بمزاعمهم و قصصهم التي لم ينزل بها الله من سلطان ولا برهان .فالأمر، كما يبدو، أصبح عملا احترافيا يحقق عائدات و أرباحا مالية في غفلة من عامة الفقراء و البسطاء، و في غفلة أيضا من إدارة الضرائب.

الآراء المذكورة في المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

1 تعليق
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
علي او عمو
المعلق(ة)
17 أبريل 2023 22:53

للقضاء على ظاهرةالتسوّل في المغرب لابدّ من معرفة أسبابها و دواعيها لمُعالجتها و اقتلاعها من جذورها ، للإشارة ، فهذه الظاهرة لم تكُن وليدة اليوم أو الأمس و إنّما لها جذورها في تاريخ المغرب . لنكون واقعيّين مع أنفسنا ، فالسياسة المُنتَهَجَة في المغرب منذ إنشاء الدولة المغربية هي من الأسباب الرئيسيّة في ظهور التّسوُّل و انتشاره ، و من أجل وضع قطيعة مع هذه الظاهرة المُشينة التي تُلوِّث سُمعة البلاد في الداخل و الخارج كان من الواجب أن تُبنى الدولة على أسس ديمُقراطيّة حقيقيّة تحترم مبدأ العدالة الاجتماعيّة و ذلك بتمكين كل الشعب المغربيّ من الاستفادة من ثروات البلاد الهائلة التي لا تُقدَّر و لا تُحصى و التي يجب أن تًستَثمَر في تنميّة البلد و تقوية هياكله الاجتماعية و وضع العنصر البشريّ المغربيّ في صميم اهتمام السلطات المغربية من أجل خلق مجتمع يتمتّع بجميع حقوقه المشروعة التي توفّر له جميع مُقوّمات الحياة ليعيش حياة كريمة كباقي البدان الديمقراطيّة في العالم الحديث المُتقدّم و المُزدهِر ، و بترفيه الشعب و تمتيعه بحقّه في ثروت بلده لن يبقى هناك فقير و لا محروم .

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x